لك يا سورية السلامة

> أبوبكر السقاف:

> كل الإشارات تدل على أن سورية تدق باب المستقبل، المتحرر من الخوف، والقتل، والانحلال الذي تسرب إلى مسام المجتمع فسمم كل ماهو طيب، وجميل، في بلاد لها مكان خاص في وجدان كل عربي، وهو بها وبه ضنين.

بعد بيان دمشق للمعارضة السلمية الديمقراطية الذي أعلن التقاء على جوامع مشتركة، بعد جهد طويل، فجاء معتدلاً، وعملياً، فإذا كان الإسلام فيه «يعتبر دين الاكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه» وهذا لجوء ذكي إلى فكرة منهجية في الفكر الإسلامي وهي «مقاصد الشريعة»، التي كان الشاطبي من أكثر المتحمسين لها، وكان الشيخ محمد عبده قد أعاد طبع كتاب الموافقات، الذي يشرحها. فإن البيان لم ينس الشريعة، والإسلام الثقافي والحضارة العربية وقيمها، وضرورة تفاعلها «مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا» ونبذ التعصب، والإشادة بالتسامح واحترام الآخرين «أيا كانت انتماءاتهم الدينية المذهبية والفكرية» ونادى «بالانفتاح على الثقافات الجديدة المعاصرة».

إن سورية القادمة باختصار نقيض الطائفة المذهبية، والجهوية، وحكم الأقلية المغلقة التي لا تحاور الا نفسها. وجاء بعد ذلك تصريح المناضل السوري الأبرز رياض الترك الذي قال فيه :«الآن في وسع العالم بأسره أن يرى جرائم هذا النظام. ولكن ينبغي أن يعرفوا أن الشعب السوري عانى من الجرائم بحق الإنسانية مايملأ 20 تقرير ميلس».

استحق الترك لقب «مانديلا سورية» وهو الذي ظل في السجن نحو عشرين عاما في عهد الرئيسين الأب ، والابن. «وليس من عادة هذا الرجل الكبير أن يبالغ أو يستزيد أو يجنح إلى بلاغة مفرطة، سيما حينما يتصل الأمر بطبائع الاستبداد» كما كتب الزميل صبحي حديدي في القدس العربي (24/10/2005). يذكرنا صبحي بأنماط وتاريخ الاستبداد العاري التي عاشها الشعب السوري منذ العام 1963، وتمتد محطاته الدامية، من الاغتيالات في الوطن والمهجر ، إلى مجزرة حماه 1982 التي قتل فيها نحو عشرين ألف مواطن بريء، إلى مجزرة تدمر، وجسر الشغور، وأريحا، ودير الزور، وكفر نبل، والمشارقة، وسرمدا ..وأخيرا قبل عام إطلاق الرصاص على الأكراد الأبرياء في ملعب كرة قدم بالتامشلي: مسقط رأس صبحي وأرض طفولته وصباه.

بيد أن تصريح الترك بالأمس (30/10/2005) جاء ليقدم هدفا ويرسم طريقا، ويجيب عن سؤال الأسئلة: وكيف التغيير؟ ومن أين البداية؟ وطالب، ولم يطلب، باستقالة بشار الأسد، واجتماع ممثلي الأحزاب، بما فيها حزب البعث، وممثلو الجيش، والبدء بتنصيب رئيس البرلمان رئيساً مؤقتاً للجمهورية، وفقاً للدستور، والانتقال السلمي التدريجي إلى انتخاب حكومة، أكاد أقول دولة جديدة. لن يزيد اعتقال الترك الأمور إلا سوءاً، لأن الدولة-التنين سيبتلعها يم الغضب والحق والعدل. لقد وضع الترك يده على البداية الصحيحة، لا شرعية حكم الأب، والابن الوارث. فالقوة لا تخلق حقاً مهما طال عمر عربدتها. وآن للأحكام العرفية التي دامت نيفاً وأربعين عاماً أن تذهب إلى غير رجعة، وأن يتوهج الفرح على مآذن الجامع الأموي وباحاته ومنمنماته، وعلى جبل قاسيون. يجمع المؤرخون السوريون، والعرب، والأجانب، أن سورية تخلفت نصف قرن إلى الوراء عن حالها في منتصف القرن الـ 20 وهي التي كانت منذ معارك الاستقلال العام 1920 مدرعة بوعي دستوري وعروبي، تجسد في وثيقة تاريخية وقعها ممثلو الاتحادات والهيئات المستقلة لتأييد الاستقلال. كما أنها عرفت بدايات التصنيع الخفيف في غير قطاع، وذهب ممثلو الصناعة الوطنية الناشئة إلى غير قطر عربي للتعاون في سبيل تصنيع حديث. وفي الخمسينات، بعد انتهاء جولات الانقلابات العسكرية عرفت تعددا حزبيا ونشاطا فكريا، وانتخابات برلمانية، إلا أن الوحدة الفورية الاندماجية أطفأت جذوة كل هذه البدايات. فالوحدة التي يستطب بها من كل الأدواء لا تكون إلا استبدادا أو غزوا، عند سدنتها القدامى والجدد.

إن جميع شروط انتقال سلمي بوسائل السياسة المدنية قائمة اليوم في الشروط السورية، والإقليمية، والدولية، ولذا فإن العرب يشفقون على سورية من أية مغامرة قوة في أية صورة من الصور. إن تحرير هذا البلد الطيب من الاستبداد العائلي، والطائفي، ونظام حكم أقلية داخل أقلية سيكون مقدمة لتحرير الجولان، وسيشع سلاما وإخاءً وتضامنا ؤنسانيا كريما، يحيي الأمل عند كل العرب في ميلاد ثان للبداهات التاريخية القديمة وإعادة الاعتبار العقلي والنفسي لها.. ميلاد ثان للحرية، والكرامة، والتضامن، والوحدة أو الاتحاد، والاندراج في العصر بشروط الإبداع والتضامن والتآخي مع جميع الشعوب. آن لنا أن نعتقد جادين أن العرب لن يخرجوا من التاريخ، وأن نردد مع فيلسوف الطاوية العظيم لاوتسو عن رحلة الأميال الألف.

ولك يا سورية السلامة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى