أيــام الأيــام..جيش حيدر أباد كان يمنياً

> فاروق لقمان:

>
فاروق لقمان
فاروق لقمان
خلال الامبراطورية البريطانية وضعت لندن استراتيجية لكفالة سلامة الهند وبقية مستعمراتها الشرقية التي امتدت إلى هونج كونج والمحيط الهادي، وشكلت أكبر امبراطورية مساحة وسكانا في التاريخ، فاحتلت عدن عام 1839م لتجعل منها واحدة من أكبر القواعد العسكرية في العالم.

وطبيعي أن تتوثق الصلات بين الجنوب اليمني والهند إلى أقصى الحدود، إذ كانت الحكومة البريطانية - الهندية ومركزها كالكاتا أولاً ثم دلهي تسيطر على عدن وتدفع رواتب الحامية والقوات المحلية هناك. وتلا ذلك تدفق التجار الهنود وتحكمهم في تجارة تمويل السفن والأقمشة والتوابل والذهب حتى أضحى اسم «سوني» يعني دكان ذهب لأن الكلمة الهندية تعني ذلك.

إلا أن أعمق الصلات توطدت بين حضرموت وأهلها ومملكة حيدر أباد التي كان يحكمها أحفاد المغول الذين سيطروا على معظم الهند قبل تغلغل النفوذ البريطاني وتحوله إلى استعمار سافر بواسطة شركة الهند الشرقية، وهي الشركة التي بدأت التعامل مع الهنود تجارياً ثم تدريجياً استولت على مقدراتهم فكانت النقلة بديهية من الشركة إلى وزارة المستعمرات في لندن. ومثلها فعلت شركة الهند الشرقية الهولندية التي احتلت واستعمرت إندونيسيا أكثر من أربعمائة سنة حتى عام 1949م.

نظام أو نزام - تعني حاكم- حيدر أباد عثمان علي خان كان من أغنى أغنياء العالم حتى أن مجوهراته كانت متراكمة في شاحنات نقل عام ربما أتحدث عنها في مقال آخر إن شاء الله. وأغلبية رعاياه كانوا من الهندوك الذين قبلوا واستكانوا لحكمه لأنه ترك لهم مطلق الحرية الدينية لممارسة عباداتهم وتطبيق قوانينهم واعتمادها في أحوالهم الشخصية. لكن النظام ظل قلقاً من احتمال عقد تحالف بين زعماء الأغلبية الهندوكية والبريطانيين في دلهي لإسقاطه وضم ولايته إلى التاج رسمياً. فاستعان ببعض المهاجرين العرب من حضرموت بالدرجة الأولى وولاية يافع المجاورة لها وهناك من يجزم أويكاد أن الحضارم أصلهم من يافع. وبدأت واحدة من أعجب قصص التحالفات الدولية في ذلك الحين وقد شاءت الصدف أن أزور حيدر أباد وأقضي دورة في الجامعة العثمانية - نسبة إلى المهراجا عثمان علي خان- خلال إقامتي للدراسة في الهند مما يسر لي دراسة تاريخ العلاقات بين حيدر أباد وحضرموت والالتقاء ببعض أحفاد الأسر الحضرمية.

وقد استعرض تلك العلاقة المؤلف جافن ينج الذي خدم في عدن فترة مطولة وأسهب في سرد الظروف التي أجبرت النظام على الاستعانة بالحضارم وأهل يافع والعوالق لمواجهة المؤامرات البريطانية الكامنة، وجعلته يعين أحدهم كبيرا لمستشاريه ولقبه باراك جاه واسمه السيد صلاح بن عمر القعيطي نسبة إلى آل القعيطي الذين كانوا يشكلون إحدى القوتين الكبيرتين في حضرموت منذ مئات السنين وإلى يومنا هذا.

ارتقى صلاح بن عمر في الجهاز الحكومي حتى أصبح يقود شخصيا 1500 جندي من المشاة الأشداء للحرس الملكي لحماية النظام، ويمتلك ثروة مالية تقدر بنصف مليون جنيه إسترليني في القرن الماضي عندما كان الجنيه الواحد يكفي إعاشة فرد لمدة شهر. وكان راتب معلم الابتدائية بعدن حتى عام 1914 يبدأ بخمس روبيات أي أقل من جنيه في الشهر. ولم يكن أحد من أهل اليمن ومنهم ربما الإمام نفسه وسلاطين ومشايخ حضرموت يكاد يقترب منه ثروة إذ كان بإمكانه أن يرجح كفة النظام العسكرية في أية مواجهة محتملة مع أية مقاومة داخلية باستثناء اجتياح بريطاني شامل مدعماً بالمدفعية الثقيلة.

لذلك كان أبرز حضرمي في حيدر أباد بلا منازع. إلا أن المؤسس الأصلي كان والده عمر بن عوض القعيطي الذي هاجر إلى الهند في مطلع القرن التاسع عشر يعني بعد 1800م أسوة بآلاف من الحضارم الذين تركوا بلادهم بحثاً عن الرزق والثراء في مختلف الربوع، وأخص بالذكر جاوا وسومطرة في إندونيسيا والملايو - ماليزيا حالياً- وشرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وإن ظلت المملكة العربية السعودية تستقطب أعدادا كبيرة منهم على مدى ألفي عام منذ مملكة كندة وقبلها.

وقبل وفاته ارتقى إلى أعلى مرتبة عسكرية في جيش النظام ودعمه بعناصر حضرمية ويافعية يثق بها وبولائها، وتزوج من امرأة غنية وأنجب منها خمسة أبناء تاركاً ثروة طائلة بالنسبة إلى ذلك الزمان. وبعد وفاته شكل أبناؤه صلاح وعوض وعبدالله تحالفاً عائلياً كان له أكبر الأثر في تسيير دفة الأمور في حيدر أباد وتمكنوا من التأثير على الأمور السياسية والاقتصادية في حضرموت نفسها بواسطة الأموال التي كانوا يرسلونها إلى هناك، وبعد ذلك عن طريق السلاح والذخيرة التي كانوا يحققون بها أهدافهم الإقليمية. وفي الوقت نفسه كما ذكرت السجلات البريطانية وحكومة النظام، كان هناك يمني آخر يرتقي سلم الجاه والسلطة في الولاية وهو عبدالله بن علي العولقي معاصرا ومنافسا لعمر بن عوض. وظهر حضرمي آخر في الحلبة اسمه غالب بن محسن الكثيري الذي انطلق بسرعة الشهاب في سماء حيدر أباد يهدد مركز خصمه القعيطي ويستأثر بالنفوذ لنفسه لولا تدخل النظام عثمان شخصياً للفصل بين الاثنين اللذين كانا يمثلان الصراع التقليدي بين الكثيريين والقعيطيين في حضرموت الأم.

وبينما أصبح هذا الصراع جزءاً من تاريخ المنطقة، ظلت العلاقة الجيدة بين حيدر أباد وحضرموت تزدهر حتى اليوم وإذا شاء أحدهم الاقتران بزوجة ثانية أو ثالثة احتلت الحيد أبادية أعلى مراتب خياراته.

ولايزال آخر سلاطين حضرموت من سلالات المغتربين في حيدر أباد الصديق المثقف والمؤرخ المعروف السلطان غالب بن عوض القعيطي يقيم في المملكة العربية السعودية بعد خروجه عام 1967 ليلتحق بجامعة أكسفورد لدراسة التاريخ قبل العودة إلى جدة. وكان النظام عثمان خال والدته ،رحمهما الله رحمة واسعة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى