قم للمعلم..

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
أقف اليوم بإجلال ومحبة وامتنان أمام قامة شامخة في عالم المعلمين العظام، ذلكم هو الراحل الكبير عمر عبدالله الجاوي الذي مرت ذكراه الثامنة قبل أيام، وهو لم يعلمني والآلاف العديدين في مدرسة ذات أسوار وفصول، وإنما في جامعة الحياة وفي الهواء الطلق حيث يختار الطلاب معلميهم ولا يٌفرضون عليهم فرضاً، وحيث الدرس مفتوح في كل الاتجاهات من الشأن الخاص إلى الشأن العام إلى تفرعات وظلال السياسة العملية المدعوكة بأوساخ الأطماع وهوى النفوس، وإلى أفياء السياسة النظرية المتعالية التي تجتذب النبهاء من ذوي النفوس الشفافة فتصقلهم وتغوي المقلدين من ذوي النظر القصير فيغرقون في لججها فإذا نجوا استداروا على أعقابهم نحو الضفة الأخرى.

كانت حُميّا عمر وصهباؤه قدرته العجيبة على لجم النفس والقناعة بالقليل القليل الذي يقسّمه في جسوم كثيرة ولو بات على الطوى، وكان السياسيون الذين أتخموا في مراحل لاحقة بمقاييس ما بعد الاستقلال يعجبون من هذا التعفف العمري، الذي كان بالنسبة لصاحبه الدواء الناجع والعلم النافع والرسالة الواجبة، فما كان يعطي نفسه حقاً في المال العام وكان يقول لي: لو أوصلتني المواصيل فسأطلب من صديق. كانت الصداقة قيمة عظيمة لدى عمر وقد بشر بها هذا المعلم الكبير الذي كان يحيط به على الدوام أصدقاء كبار من أمثال عبدالله حسن العالم وعبدالرحمن عبدالله إبراهيم والقرشي عبدالرحيم سلام وأحمد كلز والحريبي الشهيد وحامد جامع الخ.. وما كان ليربط أبداً بين موقف سياسي وعلاقة صداقة، وكنت أضحك معه أحياناً عن قصد فأقول له: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، فيعتدل على الكرسي ويهرش ما تبقى من شعر رأسه وهو يعلق: إنه بالضبط ما نقوم به من عمل طيب وصالح وليس كما يفهم التحريفيون، التغميس في الحرام تحت ظلال السلطان أو تأويل القرآن، ثم أننا أحسن حالاً ندخل مجالس القوم بقامات مرفوعة ونخرج ونحن أكثر ارتفاعاً لا بما نملكه ولكن بما نمثله، ثم يردد ما بينه وبين نفسه وكأنني لست معه «ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل».

كان المعلم يكظم أحزانه وما أكثرها، ويتجرّع غصص الحب وما أمرّها، وحياته سلسلة من عشق موصول أسعده قليلاً وأتعبه كثيراً، وكان دائماً ما يردد مطلع أغنية محمد بن عبدالرحمن الآنسي: السعيد الذي ما عرف كيف الهوى.. لا الذي فيه قد صار ناشب، وله صُوى وعلامات ومنارات من موسكو إلى دمشق إلى بغداد إلى عدن إلى ما شاء الله مما لا نعلم وهو في نظرهن جميعاً قامة تاريخية تشد إليها الرحال، ولكن ما يرتضينه من عمر ولعمر يقتتلْن عليه فيما بينهن كما هي عادة بنات حواء من حب للاستئثار، وميل إلى الشجار والنقار.

أشهد أني عشت في عصر عمر الجاوي الذي رأى الوحدة اليمنية منذ الخمسينات وعمل من أجلها، كما رأت زرقاء اليمامة أرتال الشجر المتحرك وحذرت قومها، ومن حسن حظه أنه رآها حقيقة واقعة في 22 مايو 1990 وكنت إلى جانبه حين رفع العلم أتيت خصيصاً عقب عشرين عاماً من الغياب، وكان يردد وهو يتهيأ لمرحلة جديدة من النضال: يا قافلة عاد المراحل طوال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى