قانون ضرب الميت!

> سعيد عولقي:

>
سعيد عولقي
سعيد عولقي
قبل عدة سنوات أذكر أنه كان عند حكومتنا الموقرة مشروع جاهز بقانون للخصخصة قدمه الاستاذ عبدالقادر باجمال عندما تولى وزارة التخطيط والتنمية في اجتماع حاشد بوزارته افتتحه يومها الاستاذ عبدالعزيز عبدالغني الذي كان رئيساً لمجلس الوزراء، وضم الاجتماع الوزراء ونوابهم ووكلاءهم ورؤساء ومدراء هيئات ومؤسسات ودوائر ومصانع ومرافق عامة من الشخصيات المعتبرة التي أطلق عليها الاخ باجمال بكلماته وتعبيره وصف (صناع القرار). وكنت لحسن حظي - أو ربما لسوئه - من بين الحاضرين مع انني لا أدعي لنفسي الفضل في صنع - أو المشاركة في صنع - قرار له وزن ورؤيته يجد طريقه للتنفيذ برغم المحاولات الكثيرة التي آل مصيرها إلى الارتطام بجدران العراقيل أو وقعت بين براثن وعود عرقوب وفي حبائل شباكها (ولكن تلك قصة أخرى) المهم ان ما أذكره انني في ختام جلسات ذلك اللقاء واجتماعاته خرجت وكتبت مقالاً صحفياً نشر تحت عنوان «كلوا موز!» وقد استوحيت العنوان من كثرة وجود فاكهة الموز على الطاولات في الاجتماعات، واستحواذها على اهتمام الحاضرين أكثر من اهتمامهم بمشروع القانون وبنوده وأهدافه والذي أسفرت نتيجة طرحه للنقاش عن رفضه جملة وتفصيلاً تحت مبررات وحجج وأعذار كثيرة يصعب حصرها أو حتى فهمها.. فأي مشروع قانون اذا كان مطلوباً لحماية المال العام مهما بدت صياغته ركيكة وبنوده ضعيفة يبقى قابلاً للتعديل والاضافة والحذف حتى يصل إلى الصيغة المناسبة التي تؤهله للخروج إلى النور كمشروع يمر عبر القنوات الضرورية التي توصله في نهاية المطاف إلى الجهات التي تقرر قبوله أو رفضه ومن ثم تحيله إلى جهة الاختصاص إما للمراجعة والتعديل أو لوضعه حيز التنفيذ.. لكن هذا القانون - أو بالاصح مشروع القانون - بالذات واجه نقداً لاذعاً من كل الاتجاهات التي كان لكل منها أسبابها ودواعيها ومبرراتها.. ومن مفارقات القدر المحزنة أن تيارات سياسية متناقضة الاتجاهات والتوجهات أجمعت على رفضه.. وكان رفضها جارفاً للنقاش إلى حد التسفيه وكيل التهم.. وكانت ادانتها لمشروع القانون ساحقة وغلابة.

واذا حصرنا تيارات رفض مشروع قانون الخصخصة في تيارين اثنين - وهما يقيناً لا يزيدان عن ذلك- وبحثنا عن دافع كل منهما لوجدنا ان الهدف النهائي لكل منهما واحد برغم براعتهما في أعمال التموية والتغطية:

الأول: يدعي انه حامي حمى الشرعية والحارس الأمين على الوطن والممتلكات العامة وبالتالي فإنه لا يحتاج إلى قانون، والثاني: يدعي انه يعمل لحماية القطاع العام لذلك فإنه يطالب بدعمه وتطويره ويعارض خصخصته.

وكلا الادعائين حق في ظاهرهما.. ولكنه حق يراد به باطل.. فالأول يريد ابتلاع الملكية العامة دفعة واحدة بدون تحفظ.. والثاني يريد مضغها بهدوء قبل ابتلاعها قطعة قطعة.. ولكي لا يظن القارئ اني أحاول ادعاء الحكمة بأثر رجعي أطمئنه إلى بطلان ظنه بأن كل شيء كان واضحاً وماثلاً للعيان لمن يريد أن يرى وفي وقته قبل محاولة وضع مشروع قانون الخصخصة وحتى قبل نشوب حرب صيف 1994م التي فتحت الأبواب على مصاريعها للنهب الشامل بغير حدود.. وشفيعي فيما أقول نفياً لظن ادعاء الحكمة بأثر رجعي انني كتبت عن ما رأيت وعلمت في الصحافة في حينه.. وبدون صدور قانون للخصخصة يبدو أن خصخصة من نوع غريب قد نالت من كل شيء حتى الكتابة!!

ومع قناعتي بصحة هذا الكلام واعتقادي الراسخ بعدم جوازه لأن تجربتي الطويلة مع الكتابة والصحافة في بلادنا قد علمتني عكس هذا الكلام.. أي أن النيابة عندنا تلاحق الصحفي الذي يفضح الفاسد ويكشف فساده، وتعاقب الصحفي ومن ينشر له.. ولا تلمس شعرة في رأس الفاسد ولا تكلف نفسها عناء التحقق من صحة فساده أو عدمه.. نعم.. هذا هو واقع الحال للأسف وأقول كلامي هذا بكل مسئولية وأتحمل تبعاته.. كيف؟ أيوه قل لي كيف؟ انها قصة طويلة ولكنها ليست سارة ولا بأس من أن أوجزها بقدر الامكان.

شوف يا سيدي.. نحن عندنا قانون اسمه قانون الصحافة والمطبوعات شاءت الظروف أن أكون أحد أعضاء اللجنة المشتركة لإعداده ومناقشته وصياغته كمشروع قانون لدولة الوحدة التي كانت على وشك القيام ثم قامت وبعدين رجعت وجلست.. المهم انه هذا القانون ممتاز جداً أو على الأقل مش بطال برغم كل التبديلات والتعديلات التي ادخلت عليه إلى أن صدر بالشكل الذي نعرفه عليه من حينها وإلى يومنا هذا .. إذن فين المشكلة؟ المشكلة مش في هذا القانون حتى اذا استخدمت النيابة والمحاكم أسوأ ما فيه من بنود أو فقرات وقامت بتأويلها ضد الصحافي والصحافة والنشر والمطبوعات فإن وقعها عليهم يبقى في حدود يمكن استيعابها والرضوخ لها والتعايش معها باعتبارها شرا لا مفر منه أو أهون الشرور التي لا مهرب منها، طبعاً مع الاعتراف بمدى الضرر الذي يحدثه هذا الاستخدام بحقوق وحريات الصحفيين والصحافة وحرية الفكر بشكل عام، خاصة عندما تتعسف الجهات القانونية في التأويل وتتطرق بمبالغة مقصودة ومترصدة محملة الكلمات والمعاني أكثر مما تحتمل لغرض في نفس يعقوب ضاربة عرض الحائط بالنص الاساس الذي يعد المبدأ العام المعبر عن روح هذا القانون والذي يتصدره بالقول: «إن المعرفة وحرية الفكر والتعبير بالقول أو الكتابة أو التصوير حق مكفول لجميع المواطنين وفق أحكام الدستور وما ينص عليه هذا القانون».

المشكلة إذن تأتي عندما تتخذ اجراءات مضادة للحريات من وراء ظهر هذا القانون أو عندما تلوى ذراعه أو عندما لا تجد الجهات القانونية في هذا القانون ما يشفي غليلها لقمع الحريات فتلجأ إلى استخدام قانون العقوبات فوق هذا القانون.. ويكفي هنا أن نشير إلى فقرة في قانون العقوبات تنص على ما معناه: انه لا يجوز نشر أي شيء ضد أي فاسد أو لص أو محتال أو مخالف للقوانين والخارج عليها وعلى الآداب العامة حتى لو رأيته يرتكب المخالفة بأم عينيك ورأته معك أمة محمد وشهدت معك ضده.. وحتى لو ملأت مكتب النيابة بالوثائق التي تدينه.. (وهنا يطلق القانون مزحته الكبرى عندما يقول:) ما لم يكن قد صدر بحقه حكم بالإدانة من المحكمة!!

ولم يسأل هذا القانون المحترم نفسه: وما حاجة الصحفي والقارئ والمجتمع إلى الكتابة عن أي فاسد اذا كان قد حوكم ونال العقاب الذي يستحقه؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى