كـركـر جمـل

> عبده حسين أحمد:

> كان الذي في عقله وقلبه الكثير من الذي يتمناه.. كان يفتح صدره وعينيه لأي أحد.. وكان يمد ذراعيه لكل من يلقاه الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم.. وكانت ابتسامته العذبة التي لا تفارق وجهه هي التي تأسرني عندما أقابله في مكتبه.. وفي الشارع.. وفي أي مكان آخر.. كان كل شيء في حياتنا.. النور الساطع الذي يملأ الفضاء.. والماء الصافي الذي يجري في النهر.. والأشجار الخضراء التي تلقي ظلالها على الأرض.. وكان كل شيء يدور في رأسي وأنا أمشي في جنازته.. وكنت أرى الناس كلهم يمشون معي خلف نعشه وأمامه.. وكنت أتمنى لو أن الدموع التي نزلت من عيوني لا تتوقف إلى الأبد.. كنت حزيناً جداً.. وأنا أودع تلميذي وصديقي عصام سعيد سالم إلى مثواه الأخير.

< والإنسان عندما يحب يكون أعمى.. فالحب أعمى لا يرى شيئاً غير الذي يحب.. وقد أحببت من قبل أباه الحاج سعيد سالم يافعي رحمه الله .. كان واحداً من أفضل أصدقائي.. ثم أحببت (عصام) وهو تلميذ في كلية عدن وأنا أدرس له اللغة العربية.. أحببته جداً.. وهذه هي عادتي أن أحب تلاميذي جميعاً وأشملهم بعطفي واهتمامي.. ولكن حب (عصام) كشف لي قلباً أصفى من الماء وأنقى من الهواء وأكثر بياضاً من الحليب.. هذا هو قلب (عصام).. وكان قلبه في الأيام الأخيرة يعكس لي- من خلال كلامه - صورة من عواطفه وهمومه وأحزانه.. بالرغم من الابتسامة العذبة التي تغطي الألوان الكئيبة في حياته.

< وفي منتدى والده الحاج سعيد سالم يافعي رحمه الله في الشيخ عثمان.. كنا نلتقي يومياً لتخزين القات.. وكان (عصام) يمر على والده.. وهو طفل صغير ليأخذ (عصريته).. وكان أبوه عندما يراه ينتشي وينتفض ويرفع صوته وكأنه يتغنى بفلذة كبده.. وهو يقول:

(نفس عصام سودت عصاما

وعلمته المكر والإقداما)

وكنا نشعر أن (عصام).. وهو أكبر أولاده.. هو الأمل والحلم والعطر والسحر والخوف في عقل وقلب أبيه.. فقد كان حبه لولده (عصام) لا يوصف.. كان كمن يفتح عينيه ويطبقهما على (عصام).. فهو لا يرى شيئاً في الدنيا إلا هو من فرط حبه له. . ورحل الأب وبقي الابن يكر ويفر.. ويتقدم ولا يتأخر ولا يهاب شيئاً في الحياة.

< وعلى حافة البقر رأيت ولده الأكبر (إياد) ومددت إليه يدي وأمسكت بكتفه من الخلف.. فالتفت إلي.. ولما رآني عانقته وقد أحمرّت عيناه من البكاء.. كنت أعزّيه.. وكان هو يعزيني.. فالفاجعة كانت واحدة.. والمصاب واحداً.. وكان الألم شديداً.. والحزن يعصر قلبي.. وأنا أرى جثمانه الطاهر يغيب داخل القبر.. ثم أظلمت الدنيا في عيوني.. وأصبح كل شيء أمامي كالسراب.. والناس كالأشباح .. لم أعد أجد نفسي.. ولم أعد أرى أو أسمع ما يقال في داخلي.. وكأنني رحت في غيبوبة.. ثم صحوت على صوت صديقيّ سعيد الجريك وعلي محسن الترب.. ومشيت خلفهما وأنا أقول.. اللهم هذا قضاؤك وقدرك.. فقد تعب كثيراً في مرضه.. فارحمه إنك أرحم الراحمين.

< صحيح أن (عصام) قد رحل فجأة عنا.. ولكنه لا يزال حياً في قلوبنا وعقولنا.. وفي ذكرياتنا وخيالنا.. ومن الصعب أن أعرف كيف أمحو من ذاكرتي ابتسامته العذبة.. وما تبقى له في أذني من كلمات الحب والتقدير والاحترام.. رحمتك يا رب.. وألف رحمة لك.. وإلى جنة الخلد ياعصام ..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى