آلام بعيدة

> محمد عبدالله الموس:

>
محمد عبدالله الموس
محمد عبدالله الموس
يروى أن رجلاً ترك لابنه وصية مكتوبة أمره بأن لا يقرأها إلا بعد مرور عام على وفاته، كانت زوجة الابن ملولة فطلبت من زوجها فتح الوصية قبل موعدها، ونتيجة لإلحاحها سمح لها بالاطلاع على مضمون الوصية بمفردها، وفوجئ بها بعد قراءتها للوصية تطلب الطلاق فوراً، فطلقها.

لاحظ أحد أصدقاء الابن المقربين تعاسته، فسأله عن السبب، وحين روى له ما حل به استأذنه في الاطلاع على الوصية، فرجاه ألا يفعل لكن الصديق طمأنه بأن شيئا لن يحدث مما يتوقعه لكنه بعد قراءة الوصية عاد إليه طالباً منه اعتبار هذا آخر لقاء لهما وألا يعتبره صديقاً بعد يومهم ذاك. لأن غياب الرجل طال عن موقع عمله فقد زاره رئيسه في العمل ليطمئن عليه، وبعد معرفة السبب طلب رئيسه الاطلاع على الوصية وعاد إليه بعد قراءتها ليبلغه أنه مفصول من عمله.

قرر الابن ترك بلدته وركب إحدى السفن المسافرة حاملاً صندوق وصيته، وعلى ظهر السفينة لاحظ الربان الكآبة على وجه ذلك الراكب، فسأله عما به، وبعد إلحاح من الربان حكى الشاب حكايته فطلب إليه الربان الاطلاع على الوصية وكان أن قرأها الربان فأمر بإنزال الشاب على أحد قوارب الإنقاذ في عرض البحر مع صندوق وصيته، وقرر الشاب وقد أصبح وحيداً بين الأمواج أن يقرأ وصية والده ولحظه أن فردها بين يديه هبت نسمة هواء شديدة فطارت الورقة مع الريح بعيداً.

تحرر الابن من لعنة الوصية وأصبحت بالنسبة له مجرد ذكرى غير سارة، في أحسن الأحوال، لكن فحواها معروف لدى آخرين وهو لا يعلم ما سيحل به مما يكتمون.

نتذكر هذه الواقعة كلما قرأنا أو سمعنا موضوعا أو حديثا ينبش في الآلام البعيدة التي عصفت بنا وبأجيال قبلنا خلال السنين الماضية، ويقترب حالنا مع ماضينا من حال ذلك الرجل الذي تحرر من الوصية - اللعنة - التي أصابته، لكن هناك من يعرف فحوى هذه الوصية وليس في مصلحة الابن- الضحية - إحياء أو ذكر مضمون هذه الوصية، وفي واقعنا لا نستطيع التفاخر بأن هناك جيلاً ولد متحرراً من آثار الماضي في حين أن هناك من يصر على نبش هذا الماضي بأساليب وصور متعددة. ويصل الأمر لدرجة استهداف من يحاول وضع مزيد من البلسم على آلام هذا الماضي.

متغيرات العصر الكونية لن تستثنينا ولا نملك سوى التعاطي معها، واجترار الآلام التي غادرناها وأصبحت في مكانها كجزء من التاريخ، بوصفها آلاماً ارتبطت بظروف دولية ولى زمنها، لا يخدم ذلكم التعاطي ولم يعد بإمكاننا العمل بطرق عتيقة في زمن مختلف، بكل المقاييس.

الألم والحسرة التي نملك تفاديها هي ما قد يصيبنا فيما لو عجزنا عن التأقلم مع متغيرات العصر واللحاق بقطاره، وهو ما نملك خياراته - أجهزة دولة وأحزاب ومنظمات مدنية - أما الماضي فقد ذهب ومحاولة استرجاع آلامه البعيدة تخلق مزيداً من العثرات التي تمنعنا من اللحاق بالركب لحجز موقعنا في بوتقة المصالح الكونية التي لا تنتظر من يعجز عن مجاراة سرعتها، ولا يضمن السلامة من يعجز عن نصب أشرعته بصورة تمكنه من تجنب الارتطام بأمواجها العاتية، والله من وراء القصد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى