من جحيم الصراع إلى نعيم التسامح

> د. عبده يحيى الدباني:

>
د. عبده يحيى الدباني
د. عبده يحيى الدباني
لقد كنت ولا فخر شاهد عيان على أحداث 13 يناير المؤسفة - طبعاً ليس كلها- وإن كان ما خفي منها قد أظهرته الأيام، كنت شاهداً إذن وأنا ابن العشرين ربيعاً شاباً مجنداً لا حول له ولا طول، ولكنه رأى وسجل في ذاكرته واعتبر. فاسمحوا لي إذن أن أسافر إلى ذلك الجرح لكي أغسله وأضمده حتى يتبلسم ويتبرعم ويزكو.. ولا ريب فالزلازل والمحن تخلق الشعوب حين توظف في الطريق الصحيح ولابد لها أن تكون كذلك مهما أريد لها غيره. (فربما صحت الأجسام بالعلل) كما قال أبو الطيب المتنبى.

ففي ذلك اليوم الذي لا أنساه- معتبراً لا حاقداً - دخلت السجن مع رفاقي من أبناء مديرية لحج سابقاً وهو في الحقيقة لم يكن سجناً ولكنه قاعة صغيرة للمحاضرات والاجتماعات، كنت أرى الفزع من الموت رهيباً على وجوه أصحابي ولا أدري لماذا كنت أقلهم جزعاً مع أنني أصغرهم سناً، لعلها براءة الشباب وعدم مبالاتهم بالعواقب، والقصة طويلة على أي حال بيد أن الشاهد فيها هو تلك الومضة المشرقة التي لمعت في ذلك الصباح الحالك السواد، لقد كان هناك ضابط يزورنا إلى المدرسة (السجن) وهو من الموالين للرئيس علي ناصر محمد وهو أيضاً أحد أركان المعسكر الحربية، كان أصحابي- وكلهم صف ضباط- يتهافتون عليه حين يقبل ويرون فيه منقذاً لحياتنا، كانوا يتزاحمون عليه وهو يطل علينا من النافذة ويذكرونه بعشرتهم الطويلة معاً، وبالعيش والملح وببعض المواقف التي لا تنسى ولا تهون إلا على من كان لئيماً بطبعه، مغموزاً في أصله وفصله، لقد عاشوا وإياه رفاقاً في خندق واحد وثكنة واحدة وطالما عرفتهم وعركتهم جزيرة سقطرى وميون وعبدالكوري، وخلف في المكلا ونشطون في الغيظة وجولد مور والمربط في عدن، كانوا رفاقاً إذن متحابين وقد عجبت أشد العجب حينما رأيت الضابط يبكي برجولة على وضعنا داخل السجن مع أنه كان واحداً من الذين زجوا بنا داخله، فلماذا يبكي؟ يقول لنا بلهجته الأبينية الريفية الأصيلةك«لقد وضعناكم هنا في القاعة حفاظاً على سلامتكم، لن أرضى عليكم، لا تخافوا أنتم في وجهي، وإنما هذه أوامر عسكرية من فوق، ونحن عسكر وأنتم تعرفون كل شيء عن الحياة العسكرية، وتعرفون أنني لا أؤمن بما يسمونه الصراع الحزبي ولم أكن حزبياً..» كان يقول ذلك وعيناه تفيضان من الدمع نظراً لما آل إليه الأمر بين رفاق السلاح، أمسوا رفاقاً فأصبحوا فرقاء، لقد نزغ الشيطان بينهم ولعبت السياسة بهم. أما أنا فقد كان الضابط يتحاشى أن ينظر إلي أو يكلمني ولعل ذلك كان إشقاقاً منه أو شعوراً بالحرج، فقد انكفأت على نفسي في إحدى الزوايا ولم أشارك في الحوار كنت استمع ولم أفقه كثيراً مما كانوا يقولون ويتهامسون.

لقد كان عمل هذا الضابط الجوهرة على تأميننا في السجن ومدنا بما يلزم من الماء والأكل والفراش ثم عمل على تأميننا من القصف المدفعي الرهيب الذي كان ينصب على المعكسر من أماكن مختلفة، وكان السجن في مرمى هذا القصف العنيف، فقد جرى إطلاق سراحنا لنهرول ونحتمي وراء الجبل في جولد مور حيث طغى هدير الموج ليلاً على أصوات المعارك. فرحم الله رفيقنا الضابط (الكتلة) حياً أو ميتاً فقد أنقذ حياتنا وكشف عن معدن أصيل، كان له من يشبهه في كل ساحات المحنة وساعاتها، فقد كان رجلاً أي رجل ذرف الدمع مع أن دموع الرجال لا تنزل بسهولة إلا لأمر جلل.

فإذا كانت هذه الروح الطيبة المتسامحة موجودة لدى الكثيرين ونحن في قلب الأحداث المؤسفة فكيف لها اليوم ألا تكون مزدهرة وناضجة وقد قطعنا عشرين عاماً من تلك الفتنة، لقد آن الأوان بشدة إلى ذلك، بل لقد تأخرنا كثيراً فذلك الدرس العميق كان ينبغي استيعابه بعد الأحداث مباشرة أو على الأقل قبيل الوحدة أو بعيدها، والحق أن التسامح نفسه قد سار على أكثر من قناة غير مباشرة وقد فرض نفسه، إنما اليوم نريد تتويجه والوصول إلى أقصاه وقطع دابر الفتنة إلى الأبد، وسد الطريق أمام من يوظفه سياسياً أو يبعثه من جديد.

إن تمتين أواصر المودة والمحبة والتسامح بين فرقاء يناير يخدم الوحدة الوطنية ويعضدها وهو الطريق الصحي الآمن لإزالة آثار حرب 94 وعقد تسامح وطني كبير عام. فإذا كان الأول بحاجة إلى إرادة خيرة اجتماعية تسامحية- وهي موجودة بحمد الله تعالى - فإن الثاني بحاجة إلى إرادة سياسية في المقام الأول فضلاً عن الإرادة الوطنية والتسامحية وحب الإيثار ونبذ الاستئثار حتى يرضى الله تعالى عنا جميعاً ويطير الوطن بجناحين سليمين قويين إلى آفاق المستقبل، ولم لا ونحن معشر اليمانيين جبلنا على التسامح على مر التاريخ.

لقد كان علينا ونحن نتحدث عن التسامح والتصافي أن ننتقد قرار التأمينات رقم (1) الذي بموجبه جرى إيقاف نشاط جمعية ردفان في عدن التي عقد فيها لقاء تسامح وإخاء، ولكن سيكون لنا وقفة خاصة بإذنه تعالى على هذه القضية قريباً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى