يافع .. السماء تمطر ذهباً

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
تحدثت في زاوية الأسبوع الماضي عن المطر حين يشحّ ويغزر في الهضبة اليافعية وأثره على حياة الناس وأمزجتهم وأحاديثهم، ولكن ذلك الحديث في جزء كبير منه هو استرجاع لماض يبدو بعيداً عرفته وعشته وخبرته عن قرب حين كانت ثلاثية الإنسان والمطر والأرض هي مصدر الرزق ولقمة العيش والعز والجاه، وكانت الحيوانات شريكاً عزيزاً لها العز والمقدار في تلك الملحمة، فالثيران التي تعطى أجمل الأسماء هي الملوك المتوجة في الأطيان حين الحرث وفي «المجاليب» حين اغتراف الماء من الآبار للشرب وللري، ولست أنسى موسيقى أظلافها قبل انبلاج الصبح وهي تبعث الشرر في الصفا الذي تعبره واثقة شديدة العزم في طريقها إلى الوديان وأنا أسحب الغطاء الناعم المدبوغ من جلودها «الخطّة» على وجهي لأتظاهر بالنوم داعيا الله أن لا أوقظ في تلك الريح الصرصر لأشارك في أعمال الزراعة القاسية، كما لا أنسى عودة الثيران عقب المغيب مجهدة موسيقى أظلافها خافتة لا تكاد تسمع، إنها تحلم بالدفء وما تيسر من بقايا الطعام «الكَرُود» وبعض القضب «البرسيم» وقليل من الاسترخاء في «العكم» وهو مسكن الأبقار والذي يقع في أساسيات العمارة اليافعية، أما «البقرة» التي لا تعرف شيئاً عن عذابات الثيران وانجازاتها فإنها لا تغادر البيت أبداً فهي إما في «الوصر» تتشمس وإما أمام صف النساء اللواتي يتجمعن مع بقراتهن يستدفئن بشمس العصرية و«يعوّدن» البقرات أي يغذينهن وذلك بلف القضب على القصب وإطعامهن باليد لعدة ساعات تكون فيها البقرة مستمعة جيدة لأحاديث النسوة وأسرارهن الريفية وأحلامهن البسيطة. البقرة هي مصدر الحليب والقشده والسمن في زمن لم يكن يعرف مصدراً آخر لذلك، كما أنها الولاّدة لأجيال جديدة ملحمة ولذلك فإن المرأة كانت توليها ما توليه أولادها من الرعاية والحب، وكثيراً ما نشبت المنازعات بين الرجال والنساء اللواتي لا يعطين كبير اهتمام للثيران، وينصرفن بعواطفهن إلى البقرة الأنثى «إن الطيور على أشكالها تقع».

أراني استرسلت فقد تلاشت الأبقار أو كادت ولم أر كلباً في قريتي «القدمة» من تلك التي كانت تحرس الدُّور وتنبح على البدور وبالكاد رأيت حماراً يخبّ في أحد النجود والسيارات تمر به دون أن تعيره بالاً وهو الذي ظل لمئات السنين يحمل الثقيل ويطلع النقيل، وكان أحد الشباب في الماضي البعيد قد فشل في إقناع والده بقبول الفتاة التي يختارها شريكة لحياته، ذلك أن الوالد كان يؤكد دائماً شرطه غير القابل للقياس العملي «تحمل الثقيل وتطلع النقيل» فتلك البنية القاسية التي كان الناس يصفون أنفسهم فيها بأنهم «رجال على حجار» كانت تتطلب امراة من نوع خاص تعمل في البيت وفي الحقل وتحتطب من الوديان والشعاب البعيدة وتحمل الماء على ظهرها وتعتني بالحيوانات، ولا مجال لما هو أقل من ذلك، لذلك فإن الشاب وقد يئس من إقناع والده قال له: اسمع يا به .. زوجني دابة فهي التي تحمل الثقيل وتطلع النقيل.

ما علينا.. ففي شتاء هذا العام أغلقت السماء صنابيرها تماماً فكشرت الأرض عن أنيابها، ولكن الأسواق كانت مليئة بكل ما لذ وطاب من الفواكه والخضار الطازجة وأفواج الأغنام والعجول الرضيعة اللاحمة ورؤوس الناس في الدسم كما يقولون أما العسل فمبذول لشاربه، وأجود «القات» ابو زربين لا يرضى عن أسواق يافع بديلا.. لماذا يا ترى؟ لأن السماء تمطر هنالك ذهباً، والسحب تأتي من السعودية والخليج أو أميركا وبريطانيا، إنه المهجر الذي أبدل الفقر غنى وجعل محلات الذهب والملابس الجاهزة وأدوات البناء في سوقي 14 أكتوبر والسلام تتفوق على مثيلاتها في صنعاء وعدن.

وسبحان مقسّم الأرزاق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى