تأملات في ذكرى المهاجر الأعظم (صلى الله عليه وسلم)

> «الأيام» علي بن عبدالله الضمبري:

> حينما يبهرنا ألق المناسبات الإسلامية وما تحمله من مذخور القيم، ومكنوز المبادئ والمعاني والشيم، لا نملك إلا أن نتفكر ونتذكر ذلك الانسان النبي الأمي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.. وندرك أن العالم الانساني لم يعرف ولن يعرف - من أزله إلى أبده - إنساناً يرنو بطرفه إلى السماء، ويحلق بفكره في الآباد والآماد، ويمشي على الأرض و«يأكل الطعام ويمشي في الأسواق» الفرقان 7.. ويعيش مع الناس، ومن أجل إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، ودليل ذلك أن ربه جل وعلا قد خاطبه بقوله «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» الأنبياء 107..

تنظير وتنظيم
المتأمل في حيوات الأنبياء الكرام - عليهم السلام - يجد أن التخطيط والتنظيم والحركة، وتقدير الظروف، والنظر في العواقب والمآلات.. كلها سمات لدعواتهم النبوية الرسالية التي تسير بالبشرية رويداً رويداً وبتؤدة وتمهل نحو مدارج الكمال، وبناء المستقبل.

والنبي المعلم محمد، صلوات ربي عليه وعلى آله الطاهرين، كان يدعو إلى الله على بصيرة، صابراً على رداءة المعاملة، وبذاءة الكلمات، وقسوة الظلم من جهة معسكر الكفر والشرك، وقد ضرب المثل الأعلى في المصابرة، والمثابرة، والمحاورة مع قوم شعارهم هو «لأقتلنك».. فكان مثل ابن آدم الأول الذي رد على فكرة القتل والغدر والمكر والإقصاء والإلغاء والإبادة.. رد على تلك الممارسات الفجة برفض العنف قائلاً: « لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين» المائدة 28..

ومكث 13 عاماً يربى رجالاً باهى الله بهم ملائكته، وهم - بحق «رجال يحبون أن يتطهروا» من كل أدران الشرك، وأقذار العصبية القبلية، وأوساخ الأوزار، وهم ايضاً «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه».. فعمدوا وثبتوا، وصبروا على كل صنوف العذاب والنكال والإرهاب الذي مارسته عصابة الوثنية حتى تردهم عن منهج الهدى، وصراط الله.. وهم كذلك «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" النور 37..

ونشأ مجتمع جديد، بمثل ومبادئ وأفكار جديدة، وساهم في بناء هذا المجتمع قلة مباركة من «المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيراً والذاكرات» الأحزاب 35، وكان دور المرأة مثل دور الرجل «للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن» النساء 32..

وبهذا سقطت اساطير التمييز والمفاضلة بين الأعراف، والقبائل، والثقافات والرجال والنساء.. وتشكل نمط جديد للتفكير الايماني الانساني القائم على العدل والمساواة والأخوة والعلم والمعرفة والحضارة المشتركة، وقد روى أبو داؤود والنسائي وأحمد بن حنبل من حديث زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد كل صلاة: «اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك.. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك.. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة».

ولقد كانت تلك القيم التي جاء بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة إلى «دولة» تقيمها وتبنيها، وبحاجة إلى «سلطة» تديمها وتحميها، وكانت «المدينة» هي الأرض الخصبة لاستزراع كل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

المؤاخاة
ما إن دخل النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله (يثرب) حتى استبدل بهذا الاسم اسماً حضرياً يدل على ثقافة مجتمعية جديدة فسماها «المدينة» وسميت «المدينة المنورة» لأنها استنارت بنوره الشريف، ونور دينه القويم.

وذكر المؤرخون أن النبي ص قد أسس «المسجد» ليكون مثابة العبادة، ودار الحكم، وبرلمان الأمة، ومجلس الشورى.. وقامت كل تلك الممارسات متأسسة على مبدأ «المؤاخاة» الذي أعلنه النبي القائد بين المهاجرين والأنصار، بل صار رابطة ثابتة بين كل المسلمين إلى أبد الدهر بمقتضى قول الحق جل في علاه «إنما المؤمنون إخوة» الحجرات 10.. وبمقتضى قول النبي محمد ص «المسلم أخو المسلم».

واشار المؤرخون إلى ان النبي ص قد أمر بإحصاء نفوس المسلمين (تعداد سكاني)، وخطط أسواق المدينة، وحدد أرباضها، وعين أحياءها السكنية، يعني انه قام بعملية (التخطيط الحضري) لعاصمة الدولة الوليدة الجديدة.

وكان الظل الوارف الذي ظللت أفياؤه وأفنانه جنبات هذا المجتمع المسلم هو (الأخوة) التي قامت على (المحبة) إذ وصف الله الأنصار من قبائل الأوس والخزرج اليمانية بأنهم «يحبون من هاجر إليهم» الحشر 9. .

وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم»..

ويا ليت شعري ماذا سيقول مشايخ الفتنة والتفرقة ومروجو الحقد والكراهية بين المسلمين إذا سمعوا هذا الحديث «النبوي الشريف».

إن أجواء الشحناء والبغضاء والأحقاد والشنآن والكراهية التي يروج لها «دعاة الفتنة» أجواء عفنة نتنة قذرة، تروج كل المبادئ الشيطانية من الحقد والبغض ورفض السلام والتدابر والتقاطع والتهاجر، والغيبة والنميمة والبهتان والزور والسب واللعن والطعن في الأعراض، والتجسس على النوايا، والتنابز بالألقاب، والهمز والغمز واللمز.. الخ، تلك الصفات التي تمارس الآن بين الجماعات «الإسلامية» التي تختلف على قضايا هامشية. فتهدر حق الأخوة الإيمانية، وتضيع حقوق المسلمين على بعضهم، وتنشئ حالة من التوجس والتجسس، وتتبع العورات وتسقط الزلات، وملاحقة العثرات ومتابعة الهفوات، وفساد ذات البين، بسبب «دعاة على أبواب جهنم» كما وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن أجل إلغاء هذا التفكير العدائي الأهوج الغوغائي الأعوج بين المسلمين حذرنا معلمنا الأعظم ص من الركون إلى هذه الأخلاقيات المخزية التي تحبط العمل، وتؤخر المغفرة، وتحلق الدين، فقد جاء في الصحيح أنه قال« تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا» فمتى سيتصالح «المشايخ» المتباغضون؟!

وإذا كان نبينا العظيم يعلمنا «إفشاء السلام» كونه سبباً للمحبة، ثم سبباً لدخول الجنة، ويقول «ألق السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف».. ويقول «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» فكيف والحال أنك تبدأ أخاك المسلم بالسلام -وهو من أسماء الله الحسنى - فيصيح في وجهك بكل صلف وغرور وصفاقة وحماقة وقلة أدب «يا رويبضة» مخالفاً قول الله «واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها» النساء 86..

ألا يا ليت قومي يعلمون!!
ليتهم يعلمون علم اليقين وحق اليقين أن «المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده» كما عرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ليتهم يعلمون أن النبي المعلم صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله قد شخص المسلم وعرفه وحدده بأنه «من شهد شهادتنا، وصلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا» ليس المهم شكل اللباس، ولا مظهرية المنظر، او اتباع (شيخ) أو (جماعة) أو (طائفة).. المهم ان يسلم المسلمون من لسانك ويدك.

ليتهم يعلمون أن سلامة الصدور من الأضغان، وطهارة القلوب من الأحقاد، ونقاوة الضمائر من الغل، وسمو المعاملة عن الغش، ونظافة اللسان من الفحش والبذاءة والاذى.. كل تلك صفات تقول عن صاحبها «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» لأن الله لا ينظر الى الصور والأجسام، بل ينظر إلى القلوب والأعمال، فلنتعلم من دروس الهجرة أن نهجر ما نهى الله عنه، وأن لا نتهاجر فيما بيننا لأنه «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه» ولأن «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه» و«إن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه» بل «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه».

فمتى نحب ولا نكره؟ ومتى نرحم ولا نظلم؟ ومتى نعفو ولا نحقد؟ ومتى نصل ولا نقطع؟ ومتى نمنح ولا نمنع؟ ومتى نتواضع ولا نتكبر. «ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً» الإسراء 51.

اللهم وفقنا لطاعة من سددنا، ومتابعة من ارشدنا، وإعطاء من حرمنا، والعفو عمن ظلمنا، والدعاء لمن سبنا أو شتمنا، ومكافأة من قطعنا، ومسامحة من اغتابنا، وأعنا على كظم الغيظ، وستر العيب، وحب الخير، واصلاح ذات البين، والمسارعة الى الطاعات، والمسابقة على الحسنات والمفارقة للسيئات..

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

مدرس بكلية التربية - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى