نظرة في أدب شمس الدين البكيلي..بين المغايرة والمماثلة في النص.. والكتابة في صمت!

> «الأيام» أديب قاسم:

> إلى أين تتجه الكتابة في عصرنا؟.. أو إلى أين تنتهي اللغة؟.. إن مسحاً سريعاً لما تنشره الصحف العربية- في يومنا- أكانت سياسية أم أدبية، أو حيث تنتهي معظم الصحف والمجلات في رسم اتجاهاتها العامة إلى شمولية العرض بتعبير (جامعة).. يثبت للقارئ أن الكتابة قد أصبحت مجال صراع عنيف!

ورغم أن واقع هذا الصراع هو مما يفجر الطاقة الفنية في الإبداع. وأن هامش الديمقراطية يفتح الباب للتعبير عن هذه التفجيرات، فإن قوى التقدم في المجتمع- تحديداً الوسط الفني على مستوى الأدب، قد حاصرت نفسها في حل لغز (السياسة). هذا اللغز العسير السرمدي الذي يعيش معنا في غرف النوم وعلى أسرتنا ونحن نشاهد التلفاز.. ويجلس معنا على مائدة الصباح وفي يدنا الصحيفة.. ونفاجأ به داخل محفظة النقود عندما لا نستطيع أن ندفع ثمن السلعة ونسأل: من أين نبع هذا القرار؟!.. إنها سياسة ارتفاع أسعار النفط.. أو الحرب.

وكان هذا هو شعور الكتاب من الأدباء في عصرنا أن شعروا بهيمنة السياسة على كل شيء.

أصبحت حرية الفنان سجينة في هذا الصراع الرهيب!.. فلم نعد نفكر ونتأمل ونكتب إلا والسياسة بحضورها الكثيف تعشش في الأذهان تدمر كل خلايا الأدب.. حتى قال يوسف إدريس: «إن كمية الحرية الموجودة الآن في العالم العربي لا تكفي فناناً واحداً». ذلك أن العلاقة بين الحب والحرية لا تتيح للفنان مثلما الإنسان العادي أن يحب وأن يحيا في الطبيعة .

وفي وسط هذا الصراع، صرنا نفتقر إلى الثقافات الروحية من رؤيا وفكر النبي حتى «الإنسانيات»..ولا غرو أن تكون حتى «المثاليات» التي نمت عن الأخلاقيات الفلسفية وعن عاطفة الأدب بتعدد مستوياته التعبيرية.. من ذلك: التهويمات الغنائية في بلاغتها الإنشادية المتجهة إلى كسر الواقع المادي وملامسة روح الإنسان في وسط هذا الصراع، ما عاد للفنان أن يمارس عاديات الحياة بنفس الشغف الذي كان يقبل به على تذوق الأدب!

إذن، فمن الطبيعي (والمؤسف) ما دمنا مشدودين إلى قلب السياسة، أن نفتقر إلى أساس نبني فوقه أدبنا الإنساني الحديث، فنعجز عن مخاطبة العالم.. ولا نحيا حياة الطبيعة.

وظهر (شمس الدين البكيلي) ليغني خارج السرب.. فيكتب النص المغاير لواقع الهذر والهذيان السياسي.. ويحسب له في هذا أيضاً «هذيان القصيدة الحديثة» التي أزعجت شمس.. وفي مغايرته هذه يتجلى نفس الشعر.. عندما نعانق الحياة بهمسات الناي السحري، وعندما نحب كما تحب البحيرة ضوء القمر الهادئ.. وعندما تذهب صوب الشفق الغارب أسراب من البشروس بصفيرها العذب الساحر تحت سماء عدن. وعلى هذا النحو تسترد الكلمات بعض عافيتها بعيداً عن صخب الحياة السياسية العنيفة..ودراما الحياة المشحونة بالغضب، ونلمسها في هذا النسيج حيث يكتب شمس الدين البكيلي:

«كانت الأرض تزداد روعة ورونقاً وتألقاً كلما اقتربت روحي منها.. حتى لامست سطحها الناعم .. وكانت قد اختفت عن ناظري تلك النجوم، وتلك الألوان المتلألئة البديعة، لأجد نفسي على رمل كأنه من الديباج المطرز بالجوخ الأزرق الرقيق.. الذي عكس لون البحر. وعلى شاطئ يصطفق عند الفجر، حيث أقبلت ذات الحسن الباهر الفائق الجمال، تظللها غيمة بيضاء، كأنها وردة ربيعية تفتقت لتنثر حبات المطر البللورية على مساحة واسعة من رمل ذلك الشاطئ..».

كانت هذه الكتابة التي غطت مرحلة أطلق عليها (محمد مندور) شيخ النقاد العرب «المرحلة الإنسانية الجمالية».. وفي هذا كانت دعوته إلى الهمس أو ما أسماه بالأدب المهموس عند تعريفه لأدب شعراء المهجر، حيث كان يميز بين «الخطابة» على أنها علامة من علامة الادعاء والحدة والغرور، و«الهمس» باعتباره علامة على الرقة والتواضع وتهذيب النفس.. وإلى ذلك قال رجاء النقاش- وأنا آخذ هنا عن جلال العشري- قال: «إن الهمس أقرب إلى الضمير والقلب والصدق من الصخب والعنف».. غير أنني - ودونما اختلاف مع هذا الرأي - أرى في كتابات ( شمس الدين البكيلي) ما سبق أن عبر عنه ميتر لينك الكاتب المسرحي مرة عندما قال:«إن الشاعر عندما يكتب فإنه يكتب بصمت ليتواصل مع الناس.. وإن الإنسان لا يتوقف عن التواصل مع الناس إلا عندما يتكلم»!

فالصمت لون من ألوان الصياغات يعني النطق أو الكتابة بمنتهى الهدوء والشفافية الأقرب إلى سكينة ساعات الليل المقمر بما فيه من مناجاة هي ملء القلب.

وبصمت بالغ التعبير يكتب البكيلي:

«ما أروع هذه النجوم المتلألئة البراقة!.. هذا ما ينتاب روحي من مشاعر رائعة وهي تحلق بين تلك النجوم المختلفة بألوانها وأشكالها وروعتها.. هنا حيث ترى كل شيء مختلفاً، فتظل روحي تجوب في الفضاء بين تلك النجوم المكسوة بالألوان الذهبية.. المتناثرة في أعماق ذلك الفضاء الشاسع والمدى البعيد، حيث الألماس الحرة والزمرد والياقوت والكهرمان بألوانه البديعة الرائعة.»

فترة الصمت «غير الساكنة» لأن السكون عند نفر من الأدباء يعني الركود. وهكذا كان التخريج: إن «الصمت المضطرم» يعبر عن الحياة أروع التعبير. وأستعير من محمود درويش - أيضاً- تعبيره، وإن سار به في مجرى آخر، ولكنه يلامس موضوعنا بشكل أو آخر.. يقول درويش:«أمام العنف، على اللغة أن تفتر كي يسمع همسها، لأن ضجيجها لا يُسمع» وهنا كانت الكتابة تتجه إلى التصوير العميق.. التصوير بعدسة الروح المنبعثة من شغاف أو (حبة) القلب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى