حتى لا تنطحنا الأحداث

> د. سمير عبدالرحمن شميري:

> في صورة مؤلمة للقلب صرخ أحد الشبان المتطرفين في وجه المفكر كارل بوبر«أنا لا أناقش: أنا أطلق الرصاص»، فمنهج العنف والطيش والتجبر والاستعلاء لا يقيم وزناً للعقل والمنطق والحوار والمدنية والتسامح واحترام الآراء والمعتقدات والثقافات والعادات والتقاليد المشرقة وتقود إلى عواقب وخيمة تعرقل نماء المجتمعات وعمارة الأرض.

«فكل ما أعرفه أن الشمس قد لا تشرق غداً» على حد تعبير دافيد هيوم، إذا استمررنا في رفض الآخر وتجاهلنا الحقائق والمعطيات، فلقد أكد العلماء والحكماء ومنهم ابن رشد أنه «ينبغي ألا نستحي من استحسان الحق».

لأن «الذين يخشون من قول الصدق ويهتزون أمام الرأي الصريح لا يقوون على السير في دروب الحياة» حسب قول مؤسس صحيفة «الأيام» الأستاذ محمد علي باشراحيل.

وأنا أقرأ مفردات الحياة اليومية تطفو على سطح ذاكرتي قصة للقاص المرموق أحمد محفوظ عمر، موسومة بـ«انظر.. ماذا ترى؟!»، حيث يصور لنا القاص بتكنيك قصصي شائق، صبياً يقرأ الفنجان بإيعاز من شيخه، الذي لا يريد للصبي أن يقرأ كل شيء في الفنجان، وإنما يعلمه القراءة الانتقائية وتجاوز الحقائق والصور الواضحة والمؤلمة، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى طرد الصبي بقوة واعتساف واستبداله بصبي آخر، لأنه رأى عالماً تتمزق أوصاله، شاهد أشياء كثيرة لافتة للانتباه منها: العهر السياسي، العوز، الدعارة الفكرية، التخمة، العطش، الجوع، الضوضاء وتيه المصير (والضمائر تُسلخ في سراديب الرشوة والفساد..) رأى (المبادئ السامية، تهزم بأغلبية المنافقين، والحقوق المشروعة تهدر أمام الهبات الرخيصة، والكرامة تذبح في محاريب الخنى والمروق.. أناساً يموتون من الارتواء والتخمة.. وآخرين يموتون من العطش والجوع..).

فالمجتمعات الناهضة بحاجة ماسة للنقد الهادف (لا النقد القارص)، بحاجة للنور والتبصر والصفاء الذهني والروحي، بحاجة لتجاوز ألغام الحساسيات ونشر قيم المحبة والوداد والتسامح كي نبلغ أصابع الحكمة، بحاجة لتعليم أبجديات التفكير السليم والمناطقة وفن الحوار والسجال وفن الإصغاء وتقبل الآخر وفن الاختلاف والاتفاق السلمي، بحاجة ماسة لمراجعة النفس وتطهير القلوب من الأدران، والتعلم بشجاعة من أخطاء التاريخ، فالإصرار على الخطأ ومعالجة الخطأ بخطأ آخر يؤدي إلى أضرار جسيمة وعتمة دامسة تطفئ مصباح العقل وتولد التخلف والكوابح والمصدات في بيئة حبلى بالمعطيات والظواهر والتشظيات الاجتماعية.

فلا بد من ملاحقة الركب الإنساني وألا نضع أنفسنا في القوالب المتكلسة والجغرافية الضيقة والاتكاء على الطلاء الزائف والطمطمات الفارغة التي تشكل طاقة خطر على المجتمعات. ولا محيص لنا إلا أن نصلح أحوالنا متسلحين بالعلم والمعرفة والنور والحكمة والتبصر وبشمعة الإرادة والروح الوثابة حتى لا نعيش دائماً على حافة الخطر تنطحنا الأحداث والكوارث.

«باعتباري قد عشت هذا القرن الملعون لم أشأ أن أموت دون أن أصرخ صرخة الإيقاظ: انتباه، افتحوا أعينكم، ينبغي أن تكون ثاقبة حتى ترى الأفق وتلزم الأيادي أيضاً لتقبض على طوق النجاة، علينا إدارة الظهر لليل وألا ننتظر الظهيرة لنؤمن بوجود الشمس» (روجيه جارودي).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى