صنعاء القديمة..مدينة أثرية بمعالم تاريخية تتجاوز حدود الزمان والمكان والخيال

> «الأيام» شائف الحدي:

> لصنعاء الحضارة، لصنعاء العراقة تاريخ موغل يفيض بالأسرار امتدت جذوره على وجه التحديد الى آلاف السنين إلى ما بعد الطوفان حينما اجتاز سام بن نوح عليه السلام أجمل بقاع الأرض ليصل أخيراً الى صنعاء، ولقد أعجبته لدرجة أنه شيد فيها قصر غمدان أحد عجائب الزمن القديم الذي أطنب الواصفون في وصف بنائه وملوكه التتابعة حتى أضحى مضرب الأمثال.

ويقول فيلسوف أوانه وعبقري زمانه لسان اليمن الحسن بن يعقوب الهمداني: «صنعاء كان اسمها في الجاهلية أزال ويسميها أهل الشام القصبة أي المدينة الكبيرة وتقول العرب لا بد من صنعاء وإن طال السفر.. وصنعاء أقدم مدن الأرض لان سام بن نوح عليه السلام هو الذي ابتناها».

وصنعاء اليوم مدينة ثرية بمعالم تاريخية تتجاوز حدود الزمان والمكان والخيال، فالمدينة تلح الى هاجس الوجدان بدفء زائريها الذين يدبون في أجواء نمط مبانيها التراثية شوقاً وحناناً الى ماضيها المجيد كونها مدينة تراثية احتفظت بكل شيء قديم وتمكنت عبر هذا التاريخ الحافل والطويل أن تقاوم عوادي الزمن ومساوئه. ولهذا ليس بمستغرب أن تكون صنعاء القديمة عميدة مدن التراث الثقافي العالمي في زمننا هذا لانه ربما لا توجد مدينة أخرى عربية أو إغريقية فيها التاريخ حاضر الى هذه الدرجة .. «الأيام» تواصلاً لسلسلة استطلاعاتها عن المدن التاريخية اليمنية جابت مدينة صنعاء القديمة، تحفة الزمن وياقوتة التراث وآية المجد، فدونت هذه الاستطلاعات الثلاثة المصورة عن سفر أغوار التاريخ السحيق فيها، فتعالوا بنا لنبحر سوياً في زورق الاستطلاع الأول.


مدينة تحكي قصة الماضي
ذات يوم جميل من أيام صنعاء ذات الثلاثة آلاف عام كان حينها الوقت يأذن بمغيب شمس الأصيل وحلول الظلام، دخلنا صنعاء القديمة تحفة الزمن وجوهرة العمارة ودرة المدائن التراثية من بابها الرئيسي المسمى (باب اليمن)، الذي يخفي وراءه وبين ثناياه تاريخا مفعما بالمآثر الخالدة.. الأنظار كانت تستلقفها لوحات جمالية ولمحات حية تتسلل الى الأعين من الحياة اليومية لهذه المدينة المثخنة بعجائب الأزمان.. الشوارع بدت لنا ضيقة ومزدحمة بالمارة والباعة المتجولين وتغسلك بوداعتها وبساطتها.. الأحياء متعرجة ومرصوفة بالحجارة السوداء التي تزين جوانبها الحجارة البيضاء.. الشوارع أيضاً في المدينة القديمة مخططة بتصميم هندسي وذات اتجاهات متعددة وتمتاز بوجود البساتين الخضراء، وكثير من الأحياء لا تصلها الشمس بسبب تصميمها المعاكس.. المآذن كانت تسمو الى كبد السماء وتبدو وكأنها تحتل الأفق السماوي للمدينة.. المنازل تكاد تسحر الألباب بفنها وزخارفها وإنشائها المعماري المتفرد الذي يقاوم مساوئ الزمن.

وبدت لنا المدينة وكأنها لوحة فنية رسمتها يد فنان محترف أخذ لها مقاسات وأشكالا حتى أضحت بهذا الجمال المتمنطق، فيخيل للمرء أن معالم التاريخ والحضارة التي مرت بها المدينة ما هي إلا كلمات في كتاب يروي تاريخ البشرية منذ البدء وحتى اليوم.

نواصل الإبحار في أرجاء المدينة.. الحوانيت كانت تزدهي أمامنا وتبيع كل ما طاب لك من حديث وقديم.. السماسر مفعمة بحرف يدوية عريقة والأسواق الشعبية تسلب الأبصار رؤيتها وتذكرنا بأسواق العرب القديمة.. يا إلهي ما هذا؟؟ لم أعد أصدق ناظري، فقد ساورني احساس عميق أنني لازلت اعيش بين حقب العصور الأزلية مع اغوار التاريخ وليس في زمن الألفية الثالثة.. إنها باختصار مدينة تاريخية تحكي قصة الماضي واختلاطه بالحاضر.


استرجاع دراما التاريخ
على مقربة من الصخرة (الململمة) التي أمر الرسول [ بناء الجامع الكبير بجوارها الذي يعد ثالث مسجد في الإسلام، اتكأت على سارية مقابلة لها وبدأت على عجلة من أمري في استرجاع ذكريات ودراما التاريخ لهذه المدينة التاريخية المفعمة بكنوز الحضارات اليمنية القديمة، وتذكرت حينها لماذا فضل سام بن نوح عليه السلام، بناء هذه المدينة بالذات في هذا المكان في فسحة مستوية تقع ما بين جبلي نقم وعيبان؟

وتذكرت أيضاً كيف تمكن التتابعة من الملوك اليمانيين على مر العصور والأزمان من بناء قصر غمدان الشهير بهذه المدينة بالتحديد، التي بالغ الواصفون في وصف بنائه وارتفاعه وملوكه حتى أضحى مضرب الأمثال! كما تذكرت أسواق صنعاء القديمة التي كانت عبارة عن أسواق تجارية يقصدها البشر من كل مدائن أصقاع العالم القديم.

توغلت ذاكرتي كثيراً ببحر المعلومات التاريخية التي قرأتها وسمعتها عن هذه المدينة ولم يفصلني عن استرجاع دراما تاريخها العامر إلا أصوت المؤذنين الشجية حينما بدأت تصدح من مآذن صنعاء عند حلول جنح الظلام.


صنعاء آية التراث
ومن بين مدن اصقاع الأرض القديمة فإن صنعاء، تحفة الزمن وآية التراث، هي المدينة الوحيدة التي استطاعت أن تحتفظ بعراقتها وأصالتها وتراثها المعماري الفريد وحقيقتها وهويتها الثقافية الممتدة من آلاف السنين حتى زمننا هذا، فصنعاء المجد والحضارة هي إحدى المدن التاريخية النادرة في عالم التراث العالمي الذي يحس الزائر من خلاله وكأنه يعيش في العصور القديمة مع ذكريات ومنابع غور التاريخ المبطن بأسرار اعرق مدينة على وجه المعمورة.


المدينة عبر التاريخ
مع خيوط الصباح الأولى لليوم التالي عدت بمعية معشوقتي الجميلة (الكاميرا) الى مدينة صنعاء القديمة، لؤلؤة التاريخ وأسطورة الخيال، ودخلنا من بابها المسمى بـ (باب اليمن) وقبل أن تطأ قدماي الباب تذكرت مقولة احد الشعراء حينما قال:

هي صنعاء حانة الضوء فادخل

بسلام وقبل الأرض عشرا

واعتصر من جمالها الفاتن البكر

رحيقاً يضيف للعمر عمراً

دخلناها بسلام حيث كانت الشمس تتماوج على المآذن والبيوت للمدينة القديمة، حيث شدني عناق الالتماعات الذهبية لخيوط الشمس وهي تتمازج على الجدران مشكلة منظرا ذهبياًَ على المنازل والأحياء يشي بأكثر من معنى، فيا لها من روعة للمدينة العتيقة ومـنظر الشمس الذهبية تسطع بنورها عليها.

وتتجلى المدينة بنمط معماري بديع ويلتف عليها سور وأبراج تاريخية تحكي قصة مدينة خلدها التاريخ لثلاثة آلاف عام.. وكتب المفكر لويس مامفورد عن صنعاء فقال: المدينة عبر التاريخ بمبانيها ومنشآتها واسواقها وحواريها بفنها وتاريخها اللذين يقاومان آثار الزمن، تجمع المدينة دون توقف بين الماضي والحاضر والمستقبل، أي تاريخ مدينة هذا؟ ففي ساحاتها تؤكد مسيرة الزمن وجودها.

الرازي والافتتان بصنعاء
وقد لوحظ جلياً من خلال ما يرى الزائر على مدينة صنعاء القديمة أن شوارعها وأسواقها وحوانيتها وسماسرها ومساجدها وأبنيتها لم تتغير عن الوصف الذي دونه المؤرخ الرازي عنها، الذي ولد وعاش بصنعاء في القرن الرابع الهجري، حيث اظهر الرازي في كتابة تاريخ صنعاء مدى الحب والعشق والتوق والافتتان الذي يكنه لمدينة صنعاء، وذلك من خلال اسلوبه البلاغي والتاريخي الشيق وغير الممل في وصف صنعاء اليمن إذ يقول: «إن من يزعم انه توجد في العالم ارض أفضل من صنعاء لا يستأهل الثقة» هذا كان في الزمان الذي عاش فيه الرازي وهو القرن الرابع الهجري، ويضيف الرازي في تاريخه قائلاً: «كان سام بن نوح عليه السلام، أول من بنى قصر غمدان في صنعاء بعد غرقة نوح وذلك لما توفي نوح عليه السلام اجتوى ابنه سام على السكن في الأرض وارتاد اليمن فوجد حقل صنعاء أطيبها».. وأضاف :«إن قصر غمدان أول بنيان بعد الطوفان في الأرض».. ويقول أيضاً في احد فصول كتابه: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :

«لن تذهب الليالي والأيام حتى تكون صنعاء أضخم مدينة في ارض العرب».

صنعاء أزال
لقد قدم لنا الرازي المدينة باعتبارها جسراً يربط حضارات مختلفة في أماكن مختلفة من العالم، ولذا كانت المدينة اسمها صنعاء. ويقول ياقوت الحموي: «سميت صنعاء بمدينة أزال وقيل تارة أخرى سميت بمدينة سام بن نوح، وقيل إنها سميت بصنعاء بن أزال بن يقطن»..

وكتب روبيرت ليوكوك عن صنعاء فقال:

«من هذا التاريخ الطويل الحافل بالحروب والمنازعات لم تخرج مدينة صنعاء اليمن دون أذى ولكن المدينة نجت من التدمير الكامل وحافظت وأغنت القسم الرئيسي من هيكلها المعماري والمدني».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى