مولد.. وصاحبه راقد !

> سعيد عولقي:

>
سعيد عولقي
سعيد عولقي
إذا أردنا الاقتراب من وضع النقاط على الحروف.. أخشى القول إن الكثير من المؤشرات والدلائل والملابسات تدل على الواقع المدى المنظور بأن الثقافة ستبق أسيرة القيود التي يفرضها الأمر الواقع الذي تحكمه منظومة ظروف وعوامل لا تتيح امكانيات التطور والازدهار للحياة الثقافية.. فلقد ورثت دولة الوحدة عن زمن التشطير تركة ثقيلة من الكفاءات الفنية المعطلة وركوداً ثقافياً يصل إلى مستوى الأزمة التي لا تزال تبحث عن مخرج يؤدي إلى انفراج يقود إلى حل.

ولأن تجاهل المصاعب والمشاكل والأزمات لا يحلها فلا بد أن ندخل في التفاصيل.. ولنتفق أولاً على أن الثقافة هي حصيلة تجمع أنواع وأصناف وأشكال من الإبداع الفني مصدره أفراد موهوبون في المجتمع صاغوا تجاربهم الحياتية المعبرة عن الذات والغير بأسلوب تداخل فيه الخاص بالعام في نسيج محكم الصنع لامس وجدان الغالب الأعم من الناس من خلال مبادرة فردية ودوافع شخصية لم تخلقها القرارات الرسمية أو تكونها المؤسسات شبه الرسمية وإن عملت بعد ذلك أو حاولت العمل على توجيه الإبداع ودعمه ومساندته بصرف النظر عن نسبة النجاح أو مستوى الإخفاق.

وكما أن كل شيء في الحياة شخصي أولاً بحكم طبائع الأشياء وسلوك البشر.. فإن الإبداع أكثر من غيره فعل شخصي قبل أن يتطور إلى حركة عامة ويصبح حالة شاملة تبلغ بالتدريج مستويات أكثر شيوعاً وانتشاراً بين أوساط الجماهير.. وإذا تحول الفن عن هدفه الأصلي في الوصول إلى عامة الناس واتخذ لنفسه مسار الاتجاه نحو رجال السلطة وأرباب الجاه وأصحاب الدعوات الخاصة من معازيم المناسبات الرسمية.. فإنه بالتالي بتوجهه هذا - أو توجيهه - ينحرف عن الأصالة والصدق ويتحلل من التلقائية والنقاء ويفقد بريقه وتوهجه وتألقه لأنه يتخلى عن روح المبادرة الحرة التي تمكنه من الاقتحام المؤدي إلى الفتح الذي يحقق النجاح.. وبذلك ينحدر من مستوى الإبداع الفني الحقيقي إلى مستوى الأداء الوظيفي الميكانيكي.. وللأسف فإن هذا هو الذي يحدث للثقافة في بلادنا منذ أن تحول الفنان المبدع إلى موظف أو أسلم قياده إلى أغاوات الوظيفة وتحكماتهم.. أو وجد مصيره الفني أو المعيشي أو الاثنين معاً تحت رحمة ضباط الإدارة وكهنة المال.. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه المثقف والفنان ويواجه العملية الثقافية برمتها.

وهكذا سقطت مقاييس كثيرة.. وفقدت معايير أكثر معناها.. وطفت على السطح رواسب وطحالب وقشور.. وازدحم طابور المتسلقين بالادعياء والفاشلين وفاقدي الأهلية والجهلة.. وضاع أصحاب الأسماء الكبيرة الذين حفروا مجد سنين عمرهم على صدر التاريخ ورسموه على جبين الوطن.. ضاعوا وضاع معهم أكثر من جيل من طلائع المبدعين الحقيقيين والواعدين.. ضاعوا في الزحام الكبير الذي لا يفرق بين البذلة والياقة المنشأة وبين الإنسان الذي بداخلها.

وتحول فن المناسبات واحتفالاته إلى مولد صاحبه راقد.. وصاحبه هنا هو الفن الحقيقي والإبداع الخالص المتجدد العطاء.. وفي هذا المولد المثير للرثاء يتناوبنا فنانون أسماء بعضهم كبيرة وعقولهم صغيرة نضب معين عطائهم الفني فلجأوا إلى الاجترار من رصيدهم السابق الذي كان له قيمة ما ذات يوم من الأيام الغابرة التي دفنها تراب السنين.. وكأنهم يعلنون على الملأ عجزهم التام عن مواكبة تقاويم الشهور ومتغيرات العصر.. وإذا فرغنا من هؤلاء أو فرغوا منا.. يستلمنا بعدهم زعيق الأصوات الجديدة ممن يجربون عبثهم فينا.. ولأن المقاييس سقطت.. والمعايير فقدت معناها.. فإن كل الأبواب صارت مفتوحة على مصاريعها ليدخل إلى المولد كل من يدعي أنه فنان «ليفنّ!».

وهنا يداهمنا السؤال الصعب: «ما هي الوسيلة المثلى للحصول على إبداع متجدد ومتواصل من الجيش الجرار من الفنانين والمثقفين الذين يعملون كموظفين مع الدولة في وزارتي الثقافة والسياحة والإعلام ومؤسساتهما من دون أن نمن عليهم أو نقايضهم بمرتباتهم وأيضاً بدون أن نجعلهم يتعاملون مع وزارتيهم ومؤسساتهما كمقاولين وسماسرة يبتزونها بالميزانيات التي يتصيدونها في المناسبات؟» هذه هي القضية التي يطرحها السؤال الصعب ويفرض علينا إعادة النظر في التعامل السائد للخروج بصيغة جديدة لاتفاق منصف للطرفين يهدف إلى تحريك المياه الإبداعية الراكدة في بحيرة الثقافة وفنونها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى