صور من الحياة في عدن عام 1949م

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

> عودة أخرى لصفحات من تاريخ عدن الاجتماعي في تلك المراحل من الأزمنة التي مرت على هذه المدينة وأهلها والتعرف على جوانب وأحداث و أشخاص كونوا المعالم والصور البارزة لهوية عدن، وبالرغم من مرور سنوات على ما نقدمه اليوم من ذاكرة عدن، فإنه يظل من الحقائق التي لا تغفل كلما سعينا لقراءة ما كان من سيرة هذه المدينة وما حفظت لنا الأيام من حكايات.

السيد محمد عبدالقادر مكاوي

في العدد (454) من صحيفة «فتاة الجزيرة» الصادر بتاريخ 16 يناير 1949م الموافق 15 ربيع أول 1368هـ نشرت هذه المادة التي تقدم بعض المعلومات عن حياة السيد محمد عبدالقادر مكاوي، احد الشخصيات البارزة في تاريخ عدن وكان عمره عند نشر هذا الموضوع (75) سنة، فهو من مواليد عام 1293هـ في مدينة عدن وهو لم يتعلم في مدرسة ما فقد ولد في عهد كانت فيه عدن تعاني من قلة المدارس بحيث كانت تقام في الشوارع وكان أحد الطلاب الذين درسوا اللغة العربية عند المدرس صالح إبراهيم في الشارع، ومع هذا فقد ترك تلك المدرسة وبعد أن انضم إلى المدرسة الحكومية لتعلم اللغة الإنجليزية ولم يطل بقاؤه أكثر من شهر واحد وترك المدرسة وأخذ يعلم نفسه وقد ساعده على ذلك أنه ينتمي لبيت معروف بالعلم وأبوه كان مشهوراً بمقدرته العلمية وتآليفه.

بدأ السيد محمد عبدالقادر مكاوي، حياته العملية مدرساً للضباط الانجليز فقد كانوا يرغبون في تعلم اللغة العربية واستطاع أن يجمع من جهده الشخصي مبلغ (2000) روبية غير أنه خسرها، فقرر أن يعمل بالفن المعماري واستلف مبلغ (5000) روبية وقد كسب في المحاولة الثانية واستطاع أن يعمر «بيوت الخدم» في التواهي وشجعه هذا العمل والنجاح فيه على دراسة فن الهندسة واتصل عبر المراسلة بمدرسة مختصة في هذا الجانب وتمكن من الحصول على شهادات عديدة في الفن المعماري.

بينما كان في مجال الهندسة متواصلا، عمل في مجال التجارة فصدر الجلود الى امريكا وكان وكيل شركة قماش في مانشتر للبحر الاحمر كافة، وكانت له فروع في موانئ البحر الاحمر وفي السودان على الاخص، حيث كانت له اشغال كثيرة كما تنبه السيد مكاوي الى ضرورة دراسة طبيعة البلاد والكشف عن ثروتها وحصل بتاريخ 27 فبراير 1926م على رخصة في هذا المجال لاكتشاف الثروات المعدنية في عدن وبحث في الجبال فعثر على حجرتين معدنيتين فأرسلهما الى بريطانيا والهند وجاء الرد من لندن بأن هذه الحجارة تحتوي على 90% من الكحل Antimony وقد كان الاستنتاج ان من المحتمل ان يكون في مدينة عدن منجم كحل وبعد دراسة هذا الموضوع ترك الامر نظرا لتكاليف هذا المشروع المالية الكبرى، وقد ظل يصر على ضرورة اكتشاف ثروات عدن، وقدمت لجنة تحسين عدن مبلغ 10.000 جنيه كمالية لدعم هذا العمل وكان عضوا فيها وقد عرض الأمر على حكومة عدن ووزارة المستعمرات.

نشاطه السياسي

حول هذا الجانب من حياة السيد محمد عبدالقادر مكاوي جاء في المادة ما يلي : «قليل من العدنيين من اشتركوا في سياسة هذه البلاد كالسر مكاوي، فهو عضو في كثير من المجالس والهيئات واللجان وقد كان على صلة كبيرة بكبار الساسة الانجليز كالسر ونجبت باشا.

والسر مكاوي صلب اذا اقتنع بفكرة ما، فقد حدث ان طالب في اللجنة التنفيذية بوجوب حفر الميناء في عدن واقتنعت اللجنة بصحة وجهة نظره وكان المستر دجن رئيس البلدية في ذلك العهد.

فلما جاء درس المالية الخاصة للمشروع قرر السر مكاوي ان الواجب على الحكومة ان تقوم بالعمل ذاته وقرر المستر دجن ان يعطي الامتياز لأحد المقاولين.. واختلف الرأي بين الاثنين.

وتشبث كل منهما بعملية حسابة.. واصدر المكاوي تقريرا شرح فيه ان المشروع سيكلف نصف المبلغ الذي قرره المقاول ودافع في تقريره عن مالية عدن واحتدم الجدال.

واخذت اللجنة التنفيذية براي المستر دجن وقام المقاول بالمشروع، وكانت النتيجة ان كلف المشروع المقاول نصف المبلغ الذي طلبه. وانتقدت اللجنة لترى بعض المال العدني ذهب هباء، فطلب المستر دجن ترقية السر مكاوي من عضوية اللجنة التنفيذية الى لجنة مصلحة امانة الميناء.

وجاء دور الصحة العامة

فكتب المكاوي في مايو 1922م تقريرا في صفحات عديدة وكانت البلاد اعجوبة من حيث الصحة العامة.

وانتهى النقاش مع الحكومة الى وجوب تأسيس مصلحة الصحة العامة لترعى مصلحة اهالي البلاد، وكانت الضرائب 5.13% فقرر المكاوي ان هذا جور غير معقول ودار الكلام واحتد النقاش فكتب المكاوي تقريرا الى حكومة الهند يطلب تخفيفها وحدث الاخذ والرد وانتهى الحديث اخيرا الى تخفيض 1%.

وبمناسبة الحديث عن هذا التخفيض يجدر بنا ان نذكر نضاله لتخفيض سعر الماء والكهرباء فقد ناقش الحكومة في امرهما طويلا وتضايقت الحكومة لانها اخذت قرضا من حكومة الهند لهذا الخصوص. ولكن استمر فناقش حكومة الهند.

واخفضت الحكومة اسعار الماء والكهرباء 40% من سعرها الاول وقال رئيس اللجنة هذا اول من يناضل لنيل هذا الحق.

وكتب المكاوي تقريرا عن التجارة في اليمن تسابقت الصحف الى نشره فنشرته صحيفة «السودان تايمس» و«لا جيشيان جازيت» و«المؤيد» للشيخ علي يوسف. واتصل بحكومة السودان ومصر وشركة البواخر الخديوية فاستطاع ان يخفض ثلث النول بين السودان وعدن.

وفي 16 ديسمبر 1929م كتب المكاوي تقريرا عن تأخر المعارف في عدن فكان له صدى ملموس، وطالب بتعليم البنت في الشيخ عثمان بمساعدة الميجر هيكس بوثام، رئيس مصلحة امانة الميناء حاليا.

واشتغل مراقبا لمؤمن المدينة في اثناء الحرب العالمية الاولى وإلى جهوده يعود فضل جراية الماء حيث كان الخوف من العطش شديدا والحرب على مقربة من عدن».

الميناء

من اهم الاحداث في حياة السيد محمد عبدالقادر مكاوي عندما كان شابا مقالة صحفية كتبها ونشرتها صحيفة «تايمس اوف انديا» وقد طالب بما كتب بإنشاء ميناء عمومي يتصل بالبر بشكل مباشر في عام 1901م وكان لهذه المقالة صدى كبير وقد اشترك في الكتابة حولها غير قليل من المعلمين بعدن وكان عمره يوم نشر هذه المقالة 25 عاما.

وشغلت تلك المقالة الدوائر الحكومية في الهند ولندن بشكل واسع واستمر هو يكتب حولها ويفند مزاعم من يعارضها حتى أن حكومة الهند اجبرتها الحالة لارسال وفد خاص لبحث الفكرة كمشروع، وكان والتر هجس رئيس هذه البعثة والتي سميت حينها ببعثة الميناء ووصل الى عدن اللورد نورت كولت ليدرس هذه الفكرة في ذلك الوقت وفي نهاية الامر انتهت البعثة الى حقيقة واحدة هي وجوب إنشاء هذا الميناء، غير ان المشروع لم ينفذ لأن المالية لم تكن كافية وإن ظل المكاوي متمسكا برأيه.

اعماله الاخرى

كان السيد محمد عبدالقادر مكاوي أول من اقترح وناقش قضية انشاء بيوت للعمال في الشيخ عثمان، وقد واجه عدة مصاعب حتى جاء المستر متشمور ووافق على منح المالية اللازمة لهذا الغرض وقد حدد سقف الايجار فقرر ان لا يزيد على 8-2 روبية وقد عرف عند بعض المسؤولين الكبار في وزارة المستعمرات باسم «ابومالية مساعدة الفقراء» وقد اقترح اقامتها بمساعدة السر برنارد رايلي.

كما كان اول من ارسل اولادا للتعلم في الخارج، كان قد بنى حظائر المكاوي في المستشفى وبستان المستشفى لنزهة المرضى وجامع المعلا وسعى لبناء خمس حظائر اخرى في المستشفى وعرض أن يبني خمس حظائر في الشيخ عثمان وكان المستر كرتش جونس وزير المستعمرات قد كتب خطابا للسيد مكاوي يذكر فيه فضله في خدمة هذه المدينة وأهلها والتي استحق من اجلها تقدير ملك بريطانيا، ولكنه اعتذر عن قبول حفلات التكريم وعندما منح لقب خان بهادر قال كلمة استعرض فيها المسؤوليات الملقاة على اهل عدن : «ويشارككم في هذه المسؤوليات من جاء الى بلادكم من الاجانب وعاش بينكم مدة من الزمن فإنهم تابعون لهذا القانون ما داموا فيها فهل اغتنم هذه الفرصة واذكرهم بهذه المسؤولية واطلب منهم بأن يزيدوا قليلا في اهتمامهم بمصالح اهالي البلاد في عطفهم ومساعدتهم لهم وهل نطلب منهم ان يضعوا مصلحة الاهالي أمامهم، بهذا لا بغيره يكسبون ثقة الاهالي ومودتهم وبهذا تزول الشكوك والضغائن ويصفو الجو بينهم وبهذا ينالون شكر اهالي عدن بل شكر أمة من أكرم الامم وهي الامة العربية بأسرها».

ملك بريطانيا يمنح السر مكاوي لقب فارس الامبراطورية البريطانية

بتاريخ 18 ديسمبر عام 1949م اعلنت محطة اذاعة لندن نبأ منح ملك بريطانيا جورج السادس «1936-1952» السيد محمد عبدالقادر مكاوي لقب فارس الامبراطورية البريطانيةSir وقد كتبت الجمعية العدنية خطابا بهذه المناسبة تحيي فيه شيخ العرب الذي وهب عمره لخدمة العرب والمسلمين في هذه البلاد، وقد حمل الخطاب كل من الحاج عبده حسين الادهل والاستاذ عبدالله غالب عنتر، وهما رئيس وأمين الجمعية في الهيئة التأسيسية المؤقتة وقد ذهبا شخصيا الى منزله في بستانه وسلماه الخطاب فاستقبلهما هذا الفارس العدني بما عرف به من اخلاق حميدة وصفاء السريرة وقد توقعت الجمعية العدنية ان يزورها في مقرها، وكان رحيل هذا العلم الاجتماعي وصاحب الخدمات العديدة لمدينة عدن وأهلها بتاريخ 23/8 عام 1953م.

خطاب مفتوح الى وزير المستعمرات لماذا نسيت العدني يا صاحب المعالي؟

في السنة العاشرة العدد (457) من «فتاة الجزيرة» الصادر بتاريخ 6 فبراير 1949م الموافق 8 ربيع الثاني 1368هـ يكتب الاستاذ محمد علي لقمان عن جانب من وضع العدني في ذلك الوقت قائلا: «يقال ان طبيعة هذه البلاد قد صبغت السياسة المحلية بالميول المحسوسة نحو ارباب رؤوس الاموال من التجار والشركات وكبار الموردين والمصدرين، فحابت كبارهم وقادة جالياتهم فسخرت لهم الارباح الطائلة والمراكز الرفيعة في المجالس واللجان والالقاب والاوسمة والنفوذ العريض لانها ترى ان البلاد لا يمكن ان تعيش في بحبوحة الملايين إلا في احضان (الكوتاس).

وقد كانت هذه الخيرات في نطاق (للكوك) فقط من خط تجار العرب العدنيين ايام كانوا سادة الموقف ورجال الاعمال المسيطرين على التجارة، ولكنهم بحكم دورة الزمن واهمالهم وعدم استعدادهم لكارثة المنافسة الاجنبية اضاعوها أو بصورة أوضح اسلمتها حكومة عدن اختيارا او اضطرارا للشركات الغنية والقادمين اليها من كل فجاج الدنيا وأخذ ابناء البلاد ينحدرون من مقامهم الطبيعي في وطنهم العزيز الى درجات لا تليق بمواطن كريم.

كان جديرا بنا ان نعيش رافعي الرؤوس موفوري الكرامة نملك ناصية التجارة وقصبة الاعمال في وطننا الذي نعيش في اكنافه في الشدة والرخاء نصبر على البلوى فيه ولا ننعم الا بما يفيض ويزيد.

صحيح ان سياسة الحكومة تقتضي ان تحفظ للتجار وأصحاب رؤوس الاموال الجميل وأن تسخر لهم شيئا من الربح لا الربح كله، ولكن عليها ان تدرك ان من اقدس واجباتها أن لا تغفل مستقبل ابناء البلاد وأن تضع برامجها وتطور سياستها في مصلحتهم وأن تعدهم للانتفاع بأكبر حصة من خيرات وطنهم وحكم بلادهم.

ان الشركات الاجنبية والشخصيات البارزة بين الجاليات لقيت السعد والهناء خلال 25 سنة ونحن نخسر في كل يوم مقعدا من مقاعدنا. اننا نلوم انفسنا ونعرف اننا تواكلنا واكل بعضنا لحم بعض وإننا نجني اشواك مسلكنا وجهلنا بواجباتنا وعدم اعترافنا برجل منا نسلم اليه قيادنا حتى أصبحنا وليس لنا وطن نمارس فيه طرق الحياة والمبادئ الدستورية محرومين من بركات الحرية الكاملة والاستقلال ولكننا لا نبرئ رجال حكومتنا مما نحن فيه من تأخر وضيم.

كيف يجوز ان يتولى الدخيل الرئاسات والاصيل مغلوب على أمره؟ ان الاجنبي مهما اظهر من الغيرة السطحية على مصالحنا فإن أموال تجبى لغير عدن والعدنيين وهو هـنا لا يصرف سـوى على قوته وأجـرة خـادم او خادمين اما ابن البلد المخلص فإنه يصرف ما يكسبه، وما يكسبه قليل، على هذا البلد وفي هذا البلد لا يحمله الى الخارج ولا يغادرها».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى