نحن والنظام التجاري الدولي من ركام الخيارات المتعددة إلى رهانات الخيار الواحد

> د. محمد عمر باناجة:

> إذا كان القرن العشرين قد شهد تطورات كبيرة لأدوات تنظيم العلاقات الدولية، فذلك لأنه شهد أكثر الخلافات الدولية حدة وأوسعها نطاقاً وأشدها مأساوية، توجت بنشوب حربين عالميتين كانت خسائرهما المادية والبشرية كفيلة بأن تجعل الدول الكبرى تستشعر بمسؤولياتها تجاه السلم والاستقرار العالميين. الأمر الذي دفعها إلى التفكير المشترك بإيجاد الأشكال والأطر الملائمة لتنظيم العلاقات الدولية في كافة المناحي.

وفي هذا المضمار حظي المدخل الاقتصادي بأولوية اهتمامات الدول، باعتباره أحد أكثر المداخل تأثيراً على طبيعة العلاقات الدولية وعلى ضمان استقرارها، حين حملت الولايات المتحدة راية الدعوة نحو إقامة نظام اقتصادي عالمي، يضم أطراً مؤسسية دولية في الجوانب النقدية والمالية والتجارية.

وجنت تلك الدعوة حصادها الأول في عام 1944م عندما تم التوقيع على اتفاقية بريتون وودز التي تمخض عنها ولادة النظام النقدي الدولي وإطاره المؤسسي صندوق النقد الدوليIMF) ) والنظام المالي الدولي وإطاره المؤسسي البنك الدولي للإنشاء والتعمير.(WB)

أما النظام التجاري الدولي فقد ظهرت البدايات الأولى لتخليقه في المؤتمر الدولي للتجارة والتوظيف الذي انعقد بعام 1946م في مدينة هافانا بكوبا حينما تبنى مشروع بيانه الختامي إنشاء الإطار المؤسسي للنظام التجاري الدولي.

بيد أن تناقض المصالح بين الدول المجتمعة حال دون التوقيع على مشروع البيان الذي عرف لاحقاً بـ«ميثاق هافانا» وانفض المؤتمر دون تحقيق الغرض الذي انعقد لأجله، إلا أن المشاورات بشأنه ظلت تتواصل طيلة الأعوام (1946-1948م).

في ذات السياق الزمني للمشاورات المتعثرة كانت الولايات المتحدة الأمريكة قد تبنت اتجاهاً آخر يقضي بترك المجال مفتوحاً أمام الدول لعقد اتفاقيات متعددة الأطراف بينها، الأمر الذي أفضى إلى ظهور أول اتفاقية متعددة الأطراف تعنى بتحرير التجارة الدولية بين الدول المتعاقدة، عرفت لا حقاً ب«الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات» ويطلق عليها اختصاراً باللغة الانجليزية .(GATT)

منذ بدء سريان العمل بها بتاريخ 1/1/1948م، وحتى بدء عمل منظمة التجارة العالمية بتاريخ 1/1/1990م، كانت الـ«جات» وملحقاتها المرجعية الدولية لتنظيم العلاقات التجارية بين الدول على أساس حرية التجارة بين الأطراف المتعاقدة وإزالة القيود الإدارية وغيرها والاكتفاء بالقيود الجمركية والتخلص منها تدريجياً من خلال تخفيض معدلات التعريفات الجمركية.

وإذا كانت الجات قد استهدفت عند التوقيع عليها تحرير التجارة الدولية بالسلع إلا أن التطورات الدولية اللاحقة، التي شهدها العالم في كافة الصعد، جعلت الدول الأعضاء في الـ (جات)- وتحديداً الدول الصناعية ذات المصلحة الكبرى - تسعى نحو توسيع النطاق المجالي والجغرافي لتأثير تحرير التجارة الدولية. ففي النطاق المجالي، لم يعد الأمر يقتصر على تحرير التجارة السلعية فحسب، بل تعداه ليشمل مجالات التجارة بالخدمات (GATS) وإجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة (TRIMS) وحقوق الملكية الفكرية (TRIPS)، وحركة تنقل العمالة. وإن كان المجال الأخير لازال في طور المفاوضات ضمن أجندة منظمة التجارة العالمية حتى يومنا هذا.

أما في النطاق الجغرافي، فلم يعد الأمر يقتصر على 23 دولة وقعت على الجات، بل تعداه ليشمل زهاء 149 دولة عضواً في منظمة التجارة العالمية WTO ثلثاها من الدول النامية. ناهيك عن وجود أكثر من 30 دولة أخرى بصدد إجراء استكمال ترتيبات انضمامها إلى . WTO وإذا ما استمر الحال على ذلك المنوال، فلن تكون هناك -في المستقبل القريب- دولة في العالم باقية خارح النظام التجاري الدولي المعاصر وإطاره المؤسسي WTO خاصة وأن الآثار السلبية لهذا النظام ستطال جميع الدول، الأعضاء فيه وغير الأعضاء، بينما لن تستظل بمظلة فضائله إلا الدول الأعضاء فيه فقط.

هكذا ضاقت الخيارات أمام الدول النامية والأقل نمواً ومن بينها بلداننا العربية، بعد أن أضحى الاندماج في هذا النظام التجاري الدولي هو خيارها الوحيد.

فإذا كان المشروع التنموي في بلداننا العربية قد تعثر بالأمس في ظل الخيارت التنموية المتعددة، لا غرو - إذن- أن يتعثر اليوم في ظل الخيار الواحد، إذا نحن لم نستخلص الدروس والعبر من تجاربنا السابقة لخلق الدوافع القوية المستنهضة لكل متطلبات التغيير في أنماط تفكيرنا ومواقفنا تجاه ما يعتمل في عالم اليوم - عالم الخيار الواحد.

وفي هذا السياق فإن أول ما ينبغي لنا عمله هو فك الارتباط مع أنماط الجدل العقيم التي ما فتئت مسكونة فينا. ذلك الجدل الذي جرنا في السابق إلى متاهات الاختلافات والصراعات لا لشيء يصنع ذاتنا ولكن لشيء يدمرها!

فالزمن - الآن- ليس متاحاً للجدل في شكليات الأمور وحول الإشكاليات المفاهيمية للأطروحات- كما حصل مع أطروحه العولمة عند انتشار تداولها - بقدر ما هو ضيق - أصلاً- لاستغلاله في التغلغل إلى عمقها لإدراك ما وراءها وما بعدها. وكذلك ذلك النوع من الجدل المعقود دائماً بالريبة والتوجس من الآخر- كما هو حاصل اليوم في الجدل حول الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية- . دون إدراك بأن تلك الأنماط في الجدل لن تسبر لنا الأغوار، وتوصلنا -وهذا هو المطلوب- إلى معرفة مصادر القوة الهائلة التي أتاحت للآخر أن يتسيد العالم بأطروحاته وإنجازاته، وأن تخترق أدواته (صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة العالمية) كل الحدود السيادية لدولنا، لتصيغ لها سياساتها وتشريعاتها المالية والنقدية والتجارية.

فخلاصة ما يجب أن نعيه بالنسبة للنظام التجاري الدولي (موضوع المقالة) هو أن هذا النظام جاء وتطور متناغماً مع تطور الرأسمالية ومع التوسع الهائل في الإنتاج الرأسمالي. حيث كان لابد منه لتسهيل انتقال السلع والخدمات ورؤس الأموال إلى الأسواق التي أضحت ذات طابع عولمي أكثر منه محلي.

وأهداف هذا النظام كان قد أدركها منذ 150 سنة أحد العلماء الألمان حين قال: «إن السلع التي تخرج من مصانع الرأسمالية ستأخذ في الانتشار شرقاً وغرباً ولن يفلح في صدها أي سور ولو كان بمناعة سور الصين العظيم».

وثاني ما ينبغي عمله ، التعامل بعقلانية مع ما يعتمل في عالم اليوم - عالم الخيار الواحد- بحيث لا نتجاهله بسذاجة ولا نتصدى له بعنجهية لأنه في الحالة الأولى سنبدو أقرب ما يكون إلى النعامة التي دفنت رأسها في التراب خشية الرياح، وفي الحالة الثانية سنبدو أقرب ما يكون إلى ذاك الذي يدمن محاربة طواحين الهواء. وفي كلتا الحالتين سنظل نحن فقط الخاسرين. تأسيساً على ذلك علينا أن نضع الأمور في نصابها من دون انتقاص ووجل، وفي الوقت ذاته من دون اعتداد وتحد.. فلا نلغي أنفسنا بأنفسنا ولا نعطيها حجماً أكبر من حجمها.

وثالث ما ينبغي عمله - وهو بيت القصيد - استيعاب الحقائق المهمة التي على قاعدتها نستطيع أن نؤسس لموقف عقلاني براجماتي من مسألة الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وأن نستوعب بعمق جوهرها وتفاصيل اتفاقياتها بما يتيح لنا تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب ويدرأ عنا أكبر قدر ممكن من الخسائر في آن واحد.

وأخيراً ينبغي لنا - نحن العرب، العمل سوياً مع بقية البلدان النامية في النطق الإقليمية، لتنظيم الجهود وتنسيق المواقف في المفاوضات متعددة الأطراف وتنمية التجارة البينية، مستفيدين مما هو متاح بهذا الشأن في ثنايا الخيار الواحد - النظام التجاري الدولي المعاصر- ولا ننسى عمق دلالات ما قاله أحد المفكرين العرب في يوم ما: «إذا كان يراد لنا أن نموت معاً، فلماذا لا نعمل سوياً كي نعيش معاً».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى