النعمان والجفري يرثيان رفيقهما رائد التحرير والاستقلال

> «الأيام» علي محمد السليماني:

> السيد محمد علي الجفري زعيم رابطة الجنوب العربي..لا يعرف قدر الرجال إلا الرجال، وهؤلاء الأبطال قد سجلوا أعمالهم في بطون الكتب بأحرف من نور، الصدق والإخلاص في العمل والتجرد لخدمة شعوبهم وأوطانهم، ويأتي هؤلاء الرجال الراثون والمرثيون في المقدمة من ذلك، لن أطيل بل سأفسح المجال لمن هم أقدر مني وأكثر شأناً.. للأستاذ أحمد محمد نعمان، رائد التحديث والتنوير في اليمن، بل وفي شبه الجزيرة العربية لا بل في الوطن العربي كله، رئيس الوزراء اليمني الأسبق وأيضاً أترك المجال لشقيقه السيد عبدالله علي الجفري، الذي غادر دنيانا الفانية في 31 ديسمبر 2001م، ويلحق بالجميع السيد سالم بن عمر الصافي، رئيس الرابطة في 5 أبريل 2004م، رحم الله الجميع، ووفق الأحياء إلى استلهام طريق الصواب لتجنيب شعوبهم وبلدانهم ويلات الفتن والحروب، وفيما يلي جزء من مرثية النعمان لصديقه ورفيقه السيد محمد علي الجفري - رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح الجنان:

«ولا أجدنى في هذه اللحظة بقادر على أن أتحدث بالتفصيل عن الشهيد العزيز والأخ والصديق، وساقتصر الآن على تعزية أهله وأبنائه، وعشيرته وأشقائه، وأحبائه وأصدقائه، وخير عزاء لنا ولهم أن هذا المجاهد المؤمن الصابر لم يمت موتة الجبناء على مهاد الرفاهية وسرير الراحة، ولكنه مات بعيداً عن أهله وذويه في أحد ميادين النضال في بغداد التي فتحت صدرها للمناضلين الأحرار، كما فتحت القاهرة والرياض صدرهما لذلك، ولم تقف أية عاصمة من هذه العواصم سداً مانعاً دون لقاء هؤلاء المناضلين من أبناء الجنوب في أية عاصمة شاءوا لدراسة الوسائل الكفيلة بحل مشكلة اللاجئين والمشردين من أبناء وطنهم ومواجهة الأخطار التي تحيط باليمن من الداخل والخارج بعد أن تضافرت قوى الشر، وتضاعف ظلم الأقوياء وازداد طمعهم وتداعت الأمم على العرب كما تتداعى الأكلة على القصعة مصداقاً للحديث الشريف «تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة الى قصعتها. قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، انتم يومئذ كثر ولكنكم غثاء كغثاء السيل». لقد كاد بعض أبناء الأقطار العربية أن يصبحوا غرباء في أقطارهم وأن يغرقوا في طوفان الزاحفين عليهم من مختلف الجنسيات والملل والنحل (وويل للعرب من شر قد اقترب) لقد فتح من ردم سد يأجوج ومأجوج، كما جاء في الحديث النبوي.

كان الفقيد -رحمه الله - قبل أن يختطفه القدر بساعات قليلة يرفع صوته العالي يدعو إخوانه وأبناءه للوحدة الوطنية الصادقة والمحبة والألفة والأخوة والوقوف صفاً واحداً، في وجه الغزاة الطامعين باليمن والجزيرة العربية، مؤمنة بقوله سبحانه: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.

ولقد أكرمه الله بالشهادة وهو في ميدان الكفاح يناضل في سبيل القضية التي نذر حياته لها، وأفنى عمره وشبابه في سبيلها، وضحى براحته واستقراره من أجلها، وكما أكرمه الله بالشهادة فإن العرب في بغداد والقاهرة والرياض تسابقوا في تكريمه ومهدوا الوسائل السريعة لكي تحلق الطائرات بجسده في آفاق الأرض العربية التي أحبها، كما حلقت روحه في ملكوت الله سبحانه.

شيعته بغداد، واستقبلته القاهرة، وآوته الرياض وكان في ذلك أعظم عزاء لكل المفجوعين بفقد هذا المناضل وأمل كبير في جمع شمل العرب على كلمة سواء.

فإن الأشقاء العرب مهما اختلفوا في الرأي على الكثير من قضاياهم فإنهم لا يختلفون في إنسانيتهم ومشاعرهم وعواطفهم(وخلاف الرأي لا يفسد للود قضية).

في الرأي تضطغن العقول

وليس تضطغن الصدور

وأملنا في الله، ثم في قادتنا العرب أن يجمعوا كلمتهم ويوحدوا صفوفهم وأن يكون هذا الموقف الذي تجاوبت فيه أرواح القادة في بغداد والقاهرة والرياض، لتكريم شهيدنا العزيز.. أن يكون ذلك بداية تجاوب ولقاء أخوي بين العرب جميعاً وما ذلك على الله بعزيز.

إذا احتربت يوماً وسالت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

14 جماد الآخرة 1400هـ

29 أبريل 1980م

الحزين أحمد محمد نعمان

الرحلة الأخيرة
بقلم: عبدالله الجفري

كان شقيقي وزعيمي وقائدي..

وكان شأنه، شأن كل الزعماء ملهماً في قراراته.

ذات يوم.. من مارس- آذار - عام 1980 تلقى حزب رابطة الجنوب العربي، دعوة من القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق لحضور المؤتمر المنعقد في بغداد.

عرضت الأمر على الزعيم محمد علي الجفري.. وطلب منا الاعتذار رسمياً عن حضور المؤتمر.. وكان الرجل واضحاً.. طلب أن نذكر أسباب الاعتذار .. وأرسلنا للقيادة القومية هناك نعتذر لسببين: الأول أن الدعوة لم تشتمل على جدول الأعمال.

الثاني: أن الدعوة جاءت متأخرة..

وأعلنت الرابطة في رسالة الاعتذار أننا على استعداد أن نرسل وفداً إلى بغداد على مستوى رفيع في وقت لاحق، فلقد كان من رأي محمد علي الجفري أن نمد الجسور بين جميع الدول العربية، وألا ندخل طرفاً في أي نزاع عربي، وكان رأيه أن بغداد لها دور هام في السياسة العربية.

ولم تمض أيام على إرسال البرقية، برقية الاعتذار، حتى وصلتنا دعوة لندن، واقترحنا على الزعيم أن نرسل إلى بغداد برقية لتأجيل الموعد للسفر إلى لندن للعلاج، فلقد تحدد - بمشقة - مواعيد كثيرة مع أطباء في الزيارة ورفض الرجل، وأصر على تأجيل مواعيد الأطباء، ولا تأجيل دعوة لرئيس الرابطة وأمينها العام وأعضاء آخرين.

كان محمد علي الجفري، وقت وصول الدعوة، يستعد للسفر لدعوة بغداد، وعبثاً حاولنا أن نثنيه عن عزمه، فلقد كان يحمل قضية شعب الجنوب على كتفيه، فهي- دون غيرها- تسبق عنده كل القضايا حتى لو كانت حياته نفسها.

وفي ابريل عام 1980م توجه الزعيم إلى بغداد ونحن معه، وتحت قيادته، وكان سعيداً بسفره إلى العراق، وكان يقول ونحن في الطريق من القاهرة إلى بغداد، متى يتكتل العالم العربي لرفع القيود عن شعبنا في الجنوب، سلماً أم حرباً، متى يذهب الاستعمار الأحمر الجديد من الجنوب ليعم الخير على الشعب الذي لم يذق حتى الآن حلاوة الاستقلال والحرية؟.. فلقد سلبوا منه الاستقلال والحرية في أيام قليلة.

ووصلنا إلى بغداد، وكان في استقبال الزعيم ورفاقه كبار المسؤولين من القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي- صاحب الدعوة- وكبار المسؤولين في وزارة الخارجية العراقية، وعدد من أصدقاء الزعيم.

وفور وصوله إلى العاصمة العراقية، بدأ العمل والحوار، اجتمع بنائب رئيس مكتب اليمن في القيادة القومية، وشرح له خطورة الموقف في الجنوب، وأخبره بأرقام الذين يهربون من الجنوب بحثاً عن كسرة خبز خارج الجنوب الذي أعيد احتلاله، وبشاعة الوجود السوفيتي في الجنوب وخطورته على الجزيرة العربية، وموقف المعارضة من الجنوب، ومن بعضها البعض.. تحدث الزعيم كثيراً.. ورسم صورة واضحة للموقف في الجنوب.. بل ورسم صورة للحل الذي يمكن أن يغير الصورة التي عليها جنوبنا العزيز الغالي.

وفي مساء السبت 26 أبريل عام 1980م اجتمع الزعيم والوفد الذي رافقه بالسيد قاسم سلام.. وفي هذا الاجتماع طرحت فكرة توحيد المعارضة في قوة واحدة، في تجمع قومي وطني لجنوب اليمن، وتحدث الزعيم الذي يحمل قضية شعبه طويلاً.. حتى أن السيد قاسم طلب الاجتماع به مساء الأحد، اجتماعاً مغلقاً.

وفي صباح الأحد.. بدأ يعد التقارير لهذا الاجتماع المغلق .. كان سعيداً.. فسوف يرى صفوف المعارضة وقد اتحدت وسوف يرى الضربات التي ستبدأ للاستعمار الأحمر الجديد في الجنوب العربي.. وتم الاجتماع الذي استغرق ساعات.. وعاد إلى مقر سكنه المخصص.

كنا حوله سعداء بما أنجز الزعيم لشعبه.. ثم .. وضع الغليون فوق الطاولة التي يجلس أمامها.. وقال: «إني أشعر بدوخة» ..

وتنفس أمامنا تنفساً عميقاً وسريعاً ثم أسند رأسه إلى الحائط.. فأسرعنا إليه«ندلك» له صدره.. نطلب الإسعاف.. نطلب طبيباً وجاء الإسعاف ولكن الزعيم قد مات.. مات أمام أعيننا وهو يتحدث عن لقاء المساء وعما قاله وطرحه من حلول لقضية شعب الجنوب الذي يعيش داخل الأسوار.

وانقلبت بغداد رأساً على عقب.. واهتم الرئيس العراقي صدام حسين بحادثنا الأليم.. ووضع تحت تصرفنا طائرة خاصة تنقله إلى حيث نريد.

واتصلنا بالقاهرة وجدة..

وكان أمامنا ثلاثة اختيارات: الأول: أن يدفن في بغداد.. كما عرضت الحكومة العراقية وأن نخرج جنازة رسمية تليق بالزعيم.. الثاني: أن يدفن في القاهرة، كما طلبت أسرته.. الثالث: أن يدفن في جدة.. كما طلب أبناء الجنوب.

واخترت الاختيار الثاني..أن يدفن في القاهرة تلبية لرغبة أسرته.

وصلت إلى القاهرة أول طائرة قادمة من بغداد مباشرة تحمل جثمان الزعيم وما أن وصلنا إلى القاهرة حتى انهالت البرقيات والمكالمات التليفونية من أبناء الجنوب تطلب أن يدفن وسط أكبر تجمع من أبناء الجنوب .. تطلب دفن الجثمان في جدة، لأنه ليس ملكاً لأسرته فقط ولكنه ملك لأبناء الجنوب .. لكل أبناء الجنوب . وتركنا القرار لأسرته ووافقت الأسرة على المطلب الشعبي لأبناء الجنوب.

وفي القاهرة أقيمت الصلاة على روح الفقيد في جامع عمر مكرم .. وتفضل الرئيس أنور السادات وأرسل مندوباً عنه يقدم العزاء لأبناء الجنوب في وفاة زعيمهم.. وامتلأ السرادق بالوزراء وكبار المسؤولين المصريين.

وفي المطار.. مطار القاهرة.. كانت هناك طائرتان ستحمل إحداهما جثمان الفقيد.. طائرة الخطوط السعودية الخاصة.. التي بذل في ترتيب وصولها خيار الأهل والأصدقاء السعوديين كل الجهود، وكان الشيخ على الشبكشي قد أرسل طائرته الخاصة لهذا الغرض أيضاً.

وانتقل الزعيم الغالي إلى جدة.. ذهب إلى مقر رابطة الجنوب العربي بجدة، ثم سار الركب إلى مكة المكرمة ليدفن في نفس المكان الذي دفنت فيه جدته الكبرى السيدة خديجة بنت خويلد.

وتوالت البرقيات.. وكانت أولى البرقيات برقية جلالة الملك خالد ابن عبدالعزيز وصاحب السمو الأمير فهد بن عبدالعزيز.. والأمراء والوزراء والحكام.

وودعناه.. ودعنا الشقيق.. والصديق .. والزعيم .. والمعلم.

راجع: كتاب محمد علي الجفري، حياته وجهاده ط1981م لمؤلفه عبدالرحمن علي الجفري.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى