من سكن الدّيارا..

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
لا أزال مع الرحلة اليافعية لأطلع القراء على شيء مما يجري خلف تلك الجبال التي تسدُّ الفضاء والتي تذخر الرعود على حد تعبير بدر شاكر السياب في قصيدته الشهيرة «أنشودة المطر».

وأبدأ مع الشعراء، وبعضهم لا يعرف الصبر ولا يعترف به، ذلك أن جموح الشعر مثل جموح الأحصنة الأصيلة، تطرق الحديد بحوافرها وهو حار ملتهب، وتقفز من فوق الحواجز، ولو كانت السماء تمطر الرصاص، وقد عاتبني «الخالدي الصغير» ويبدو أنه شرارة من جهنّم عمّه «الخالدي الكبير» شايف محمد الخالدي رحمه الله، الذي رابط في محجاه أربعين عاماً يصاول ويناور ويقطع الطرق على شعراء المشرق حتى سلموا له بالإمارة، وقالوا «ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا»، أما فصل الخطاب في مضمون العقاب، فهو إيرادي لما قاله المأمور في احتفال «يوم الموسطة» مخاطباً الشعراء ضمنا:«اشعروا.. ولكن.. لا تبعروا»، وكيف أنني لم أنصف فأورد الرد الذي ارتجله الخالدي الصغير «نبيل» على الفور:

قولوا لبن قحطان سيره بالمَهَلْ ** خلّ القوافي والهواجس لَهْلها

بَعَرْ وما هو شي بَعَرْ شفها نِصَل ** كالريح تعصف بالحكومة وأهلها

حاشاي أن أكون غير منصف، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها، والشعر لا يمكن إيراده بنثره وإنما بنصه، وعموماً نقول للأخ المأمور حسين قحطان الذي أعرفه منذ الطفولة المبكرة حين كنا نلعب الكرة في ملعب مدرسة السيلة الإسفلتي الملتهب في صيف عدن: لا تعتب أنت الآخر فإن من دق الباب حصل جواب، وقد سبق لي أن نوهت إلى أن عداوة الشعراء بئس ما يُقتنى.. ونسدل الستار على هذا الفصل من المسرحية.

في أعلى يهر، أكبر مكاتب يافع السفلى «رصد» وهو يشبه وادي الموت في العوالق، لأنه حتى الأنسام لا تستطيع الإفلات من ذلك الممر المسور بالجبال المتطاولة من جانبيه، والتي يفزع الناس إلى سفوحها للبناء وإلا كانوا تحت رحمة السيول التي بالكاد يتسع لها الوادي ومسيلته التي تنحر السيلة التي تليها نحراً وهي سيلة «وَطِنْ" في طريقها إلى «بنا»، وقفت أمام قرية «المرباح» وقلبي يخفق.

كأن قطاة عُلّقت بجناحها ** على كبدي من شدة الخفقان

في هذه القرية عاش رجلٌ كريم من أعلام يافع اسمه «قاسم داود»، كان ملاذ الناس في الرخاء وفي الجدب، ومن دخل بيت بن داود فهو آمن مطمئن، ريان وشابع، ولم آكل اللحم البارد صباحاً في طفولتي إلا في تلك الدار التي أبلاها الزمن الآن وها أنا أنزل من السيارة تحية إجلال وإكبار لصاحبها الذي مضى إلى رحاب الله منذ زمن طويل ولكن سيرته العطرة تجوب الوادي وليّات السيل التي قال عنها شيخ يهر وشاعرها الكبير راجح هيثم بن سبعة رحمه الله «وعاد يافع بليّات السيل».

كان بن داود الذي لا تطيب له الحياة دون ضيوف، وما أكثر ضيوفه لأن بيته على الطريق العام الصاعد إلى يافع العليا أو النازل منها عبر «نقيل الخلا» الذي يرتاده السالكون من وإلى أبين وعدن، وكان وجهه آية في البشاشة «كأنك تعطيه الذي أنت سائله». كان واحد الناس حقاً ، رحمة الله عليه.

وهل يذكر الناس إلا بأعمالهم فمن أحسن فلنفسه وعقبه ومن أساء فعليها، وليس على عقبه من سبيل، فلا تزر وازرة وزر أخرى:

أمر على الديار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغلن قلبي ** ولكن حب من سكان الديارا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى