عدن هي المدرسة.. وقفة أخرى!!

> د. عبده يحيى الذباني:

>
د. عبده يحيى الذباني
د. عبده يحيى الذباني
هذه المقالة هي توأم لمقالة أخرى نشرتها صحيفة «الأيام» قبل مدة قصيرة بعنوان (عدن.. أيتها المدرسة العظيمة)، أو قل إنها امتداد لها، لكنني كنت قد أجلت تبييضها ودفعها للنشر، لولا ما شدني من قراءة رواية (طائر الخراب) للأديب اليمني حبيب عبدالرب سروري، الصادرة في 2005م فضلاً عن تصريحات وتوجهات محافظ عدن الجديد الأخ أحمد محمد الكحلاني، فيما يخص مضاعفة الاهتمام بعدن من حيث بنائها وتخطيطها ونظافتها ومدنيتها العريقة وغير ذلك، على أن لهذه المقالة طريقتها في النظر إلى القضية ومعالجتها.

لقد كان النزوح إلى عدن في زمن ما قليلاً وموسمياً وشبه منظم بحيث تستطيع أن ترتب أوضاع النازحين وتعمل على تذويبهم فيها وتحضيرهم وتمدينهم، أما اليوم فقد اشتد الرحيل إليها والضغط عليها من كل مناطق اليمن بحيث نافسوا سكانها وأخذوا اللقمة من أفواههم والأرض من حولهم ومن تحت أرجلهم حتى قبور موتاهم لم تسلم من الاعتداء عليها، لقد أثر النازحون في عدن أكثر مما أثرت فيهم وفرضوا كثيراً من عاداتهم وتقاليدهم عليها، ثم إن بعضهم لم يأتوا طلاباً متواضعين مؤدبين يطلبون العلم والأخلاق ويلتزموا بمبادئ وقيم هذه المدرسة بل جاءوا كمدرسين يفرضون مقرراتهم المتخلفة عليها وجاءوا يأمرون وينهون ويتنفذون مما أضر بهذه المدينة المدرسة ذات الخبرة المتراكمة.

لقد كانت عدن تجعل من القبائل النازحة إليها أناساً متمدنين ومتحضرين ومسالمين وها هي اليوم القبائل المختلفة يزحفون إلى عدن بكثرة شديدة ليجعلوا منها قرية وبادية ومجتمعاً قبلياً بل وزريبة حيوانات وسوقاً معذباً بائساً للعمال الغلابى العاطلين والمجانين والمتسولين صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء وملجأ للهاربين من الحروب في البلدان المجاورة لتكون الكارثة علينا جميعاً بدواً وحضراً، مدينة وريفاً لأن عدن مدرسة لكل اليمنيين بل ولمن سواهم فلماذا ندمر أسوارها ونحرق كتبها ونهمش مدرسيها ونلغي تاريخها؟ هل هذا هو الوفاء تجاهها أم أنه الجحود بعينه الذي سيقود إلى الكارثة من خلال التصحر الطبيعي والعقلي والنفسي والثقافي، فلا بأس مثلاً بالعمران المتزايد اليوم ولكنه إذا لم يتناغم مع مقومات أخرى اقتصادية واجتماعية وحضارية سيكون أشد بشاعة من الأطلال في المدن السحيقة حتى إذا كانت البنايات جميلة في ذاتها فالمهم هو موقعها في السياق الحضاري والاجتماعي والمادي. فمن الضرر والقبح والعبث مثلاً أن نجد عمارة شاهقة جميلة في ذاتها قامت على أنقاض روضة أطفال أو ملعب أو شيدت فوق شبكة خدمات أو سدت الهواء والشمس على الناس أو بنيت على أشلاء معلم أو أثر تاريخي أو شكلت نشازاً بين منازل صغيرة متواضعة وكشفت عليهم أو أخذت بقعتها بغير حق واغتصبت اغتصاباً.

ترى هل يستطيع البحر من حول عدن أن يغسلنا جميعاً؟ كيف ونحن اليوم أكثر وبعض شواطئنا قد أغلقت وبعضها صارت محميات لكبار المسئولين وبعضها صار ملكية خاصة للمستثمرين مجازاً والبعض الآخر صار مسرحاً للبناء العشوائي، على أن هذه الشواطئ المتعددة هي أجمل وأثمن ما في عدن. لقد ذكر أحد المؤرخين القدامى يصف الأندلس تلك البلاد الأوروبية الساحرة.. تلك الجوهرة التي انفرطت من عقد الدولة العربية والإسلامية ذات يوم، قال هذا المؤرخ الجغرافي يصف الأندلس بأنها:(شامية في هوائها وهندية في عطرها وذكائها) إلى أن قال:(وعدنية في منافع سواحلها) فانظر كيف شبه الأندلس (أسبانيا والبرتغال حالياً) بعدن من حيث تعدد شواطئها، لقد صار يضرب بها المثل إذن في هذه الصفة على مستوى المكان والزمان.

فإذا كنا لا ننافس ونباهي العالم الخارجي بمدينة مثل عدن، فبماذا إذن سنباهي وننافس؟ وإذا لم نترك عدن تعلم الجميع الحب والأخلاق والمدنية والريادة والإبداع وفنون الأعمال والتجارة، فمن يا ترى سوف يقوم بهذه المهمة الحضارية الكبيرة؟ بل كيف نحول مدننا بأيدينا إلى قرى ونترك القرى خاوية ممن يحرث الأرض أو يرعى المواشي أو يحمل رسالة المدينة إليها؟

فلست ملوماً على تحمسي لعدن، فقد سئل أب عن أحب أولاده إليه فأجاب: (الغائب حتى يعود والمريض حتى يشفى).

وعدن اليوم تعاني ما تعاني فمن الطبيعي أن نهتم بها ونقلق عليها ونتحمس لها فهي أهل لذلك وإننا لمقصرون، ليس من باب التعصب أو المناطقية ولكن من باب الوفاء والوطنية على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فهل آن الأوان لأن نعطي عدن مكانتها التي تستحقها جغرافياً وتاريخياً ولماذا - بوجه عام - لا نسمي الأشياء بأسمائها وننزلها منازلها، ونسخر كلاً لما خلق له؟ والله من وراء القصد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى