شوقي عبد الامير .. الكابوس العراقي وصيغ فكرية ووجدانية

> بيروت «الأيام» جورج جحا :

> بين مجموعتي الشاعر العراقي شوقي عبد الامير الاخيرتين وعلى رغم اختلاف واضح في بعض موضوعاتهما.. سمات تميز قصائدهما ولربما شعر عبد الامير عامة. ومن تلك السمات غوص يتجلى في صيغ فكرية ووجدانية تصاغ بحرفية فنية تعطي ايحاء حتى لما يبدو اقرب الى اطار منطقي او فكري.. وكذلك تدفق سيال حتى لكلامه الذي قد يبدو اقرب الى التقريري او اليومي. وتبرز عنده قدرة على خلق نسيج شعري من الحسي والمجرد دون ان يقع في "وقف" موسيقي.

وحين يصور عبد الامير الكابوس الذي يعيش فيه بلده العراق فهو يصوره بإيحاء مؤثر حتى يكاد القارئ يقع في شبه استحالة منطقية يمكن وصفها بأنها وصف الكابوس بجمال.

المجموعتان صدرتا عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر». المجموعة الاولى حملت اسم «مقاطع مطوقة» وجاءت في 169 صفحة متوسطة القطع والثانية حملت عنوانا هو "خيلاء" وضمت 103 صفحات من القطع نفسه. لوحة غلاف المجموعة الاولى ورسومها لنديم الكوفي اما "خيلاء" فلوحة غلافها ورسومها لكوليت دوبليه.

يمكن اختصار بعض شخصية عبد الامير الشعرية والفكرية في "قصيدة" هي اولى قصائد مجموعة "مقاطع مطوقة" وهي قصيرة جدا تقتصر على نحو ست كلمات. الا انها معبأة مشحونة بثقافة فكرية وحتى ايمانية تمتد -فلسفيا- الى الفلسفة اليونانية وكذلك الى اسبقية «الكلمة» عند المسيحيين والمسلمين. ففي البدء كان الكلمة.. والقلم الذي علم به الله الانسان ما لم يعلم. فتحت عنوان "سلالة" يستهل عبد الامير مجموعته فيقول "جملة ما/ حبلت/ يوما ما/ بي."

وتتجلى قدرة الشاعر التصويرية في الاتيان بشعر يقوم على تداخل بين الحسي والمجرد في نسج مجازي متتابع متحرك. يقول داخلا في عالم عراقه العزيز "دخان/ يتراكم بين مسام الوقت/ عتمات تبتلع اخرى/ كالحيتان/ والنهار شظايا سديم/ تفقأ عين المكان/ نساء عرائش/ تتساقط الاطفال من صدورها/ كالعناقيد/ نهايات تنتقم من شرارة البدء/ وامبراطورية تدشن عصرا ذهبيا/ "مشعا ".. في/ بغداد." الا ان هذه الاشعاع قتال. يضيف الشاعر "لكن ضوءا غريبا.. غريبا/ يصاعد بين فجوات القبور الطرية/ وبين فحم الوجوه والصرخات/ دمع نوراني ينهمر من ملكوت الارض/ على السماء/ ترى/ هل هي خطى الارواح تتقافز/ حول الابدية/ كالفراش حول المصابيح/ تظل تضيء..تضيء." انها النار القتالة الصاعدة من الارض والمتساقطة عليها وعلى ناسها المساكين. في المعتقدات ان ملاك الموت يهبط من فوق الى الناس تحت. اما "ملائكة" الموت الرهيبين في هذا العصر فلا خط سير واحدا لهم.

يقول "بينما في السواد/ يتصاعد بخار الموتى في العلى/ مثل بخار الماء/ "وخلقنا من الماء كل شيء حي ..."/ وفي تلك الليلة المرقمة بالتاريخ البشري/ 20.03.2003 / بعد ان ملأت ارواح العراقيين/ اروقة الماوراء...."

وينتقل الى وصف الدمار والموت الذي يجتاح بغداد بكل انواع الاسلحة المتطورة فيقول "هذا الرصاص الذي يخترق/ جدار الالف الثالث ليصل الى بغداد يثقب الزجاج الملون/ الذي يفصل بين الحياة والموت/ في حدقات التماثيل/ وفي معابد الالهة السومرية والوحدانية/ يعيد تركيب هياكل المعنى/ ويدير راس "السواد" / وراء عقرب الالم العظيم/ دم الجيرانيوم/ دم اليورانيوم/ خلف حدائق الجثث المعلقة في بابل/ غيوم عميقة يحفر فيها الموتى/ ملاجيء للاطفال/ التي تتراكض في شوارع بغداد/ مثل اجنحة تحط "للمرة الاخيرة.../ ليس نهارا/ شظايا السديم التي تتناثر/ مثل امطار عدمية/ في البيوت والوجوه والوعول/ فوق ارض العراق/ ليس نهارا/ هذا الشعاع الذي يتلفت خائفا/ بين الانقاض وعيون المارة/ تقوده الاقمار والكواكب الصناعية/ على اجنحة "التوما هوك" / الى اسرة الاطفال/ وحدائق الليل المهجور/ فوق ارض العراق."

وينتقل الى وصف نوع الحياة الذي خلقه الموت في العراق فيقول "رجل ما/ رجل لا احد/ رجل لا يعرف من هو/ رجل لا يعرف من هم/ رجل واقف/ رجل تدوسه اقدام الجثث/ رجل شجرة/ رجل قماشة/ .../ رجل محترق لم يبق منه الا الجسد/ رجل مقتول اضاع جثمانه.../ رجل يقف وحيدا بوجه الدبابات على مدخل البصرة/ رجل عراق .../ " جاسم علوان" / يدفن طفلته في الناصرية/ يربط بقماط الجثة الصغيرة/ عنق السماء/ التي لم يزل صراخها/ يتعالى في المئذنة..." وقصائد شوقي منها قصائد نثر وهي الغالبية ومنها قصائد تفعيلة. يقول الشاعر الذي يعمل مع اليونسكو واصفا عودته الى بلده بعد انواع من الاغتراب "وحدي في بغداد/ المس غصنا او طينا/ في حرف النهر الاول/ فأراها/ تركض خلفي الاشياء.../ وأنام مزدحما ببنات النعش/ تضيء حوالي الحشرات/ وصراصير الحر المدهشة الايماء/ ولكن الطلقات/ دوي الهليكوبتر والرشاش الارضي/ تبعثر فوق فراشي الانواء..."

ويرسم صور الموت والموتى وكأنه مات هو معهم "جسدا مطمورا او مخفيا/ في المشرحة العدلية/ او عند جراج المستشفى/ لأب ملفوف ببساط الصوف المنسوج/ بكل الالوان/ ملقى في التابوت القروي/ فوق ظهور السيارات تسير/ الى مقبرة في الصحراء/ يتضور كل الموتى عطشا/ فيها ويجن الاحياء." اما مجموعة "خيلاء" ففيها مجالات اخرى للنفس البشرية لكن مشاعرها تحمل خيطا من الحزن كأنها خلاصة لآلام العالم. ويبدو الموت كأنه يمتص دماء الحياة في المشاعر. يقدم الشاعر المجموعة بكلمة فيقول "حبيبتي انتظريني/ سآتيك بعد ان افرغ من قيامة/ هذا الجحيم." القصيدة الاولى "غياب" نموذج جذاب موح في تصويره لجوانب من النفس البشرية المسكونة بالاسى والمسيجة بصمت اجباري وباستحالة وعبثية مفجعة. يقول "مثل زمن لم اعش/ او مدينة/ اعرفها دون ان ادخلها/ اقترب بخطى احتمال/ او ادخل مثل نورس/ ضبابا في خارطة./ اعرف ان اجنحة في افق/ يمكن ان تتلاشى بنفس الدرجة/ التي يمّحي فيها طائر فوق الاسفلت/... اعرف انني لن اعود من تحليق/ بجناحين/ ولهذا اخترت طائر/ الغياب." رويترز

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى