قصة قصيرة بعنوان عندما كانت القذائف تسقط على (الحافة طولي)..!

> «الأيام» مختار مقطري:

> فجأة.. ظهر في (حافتنا) كما غادرها فجأة قبل أكثر من ربع قرن، لطفي عبدالمجيد الحمزي، صلى معنا المغرب في مسجد (المعروف)، ثم وقف في ركن (الحافة) ليسلم على المرحبين بعودته، بدا عليه الثراء كما عهدناه، سيارته (الصالون) البيضاء دلتنا على ذلك، كنت مضطرباً حينها، مددت يدي لأصافحه فشدني إليه وعانقني بحرارة، وقبل ميلاد شعور بالألفة في نفسي نزع نظارته السوداء السميكة، وأشار بسبابة يده اليمنى إلى عينه اليسرى الزجاجية وسألني بأسلوب لم يعجبني قائلاً:«هل تذكر؟» ..ارتبكت.. لكني أجبته بسرعة:«لا أحسب أنك عدت طالباً بثأر». فسمعت الحاج أمين يقول ضاحكاً:«لا تنس.. العين بالعين». و زاد ارتباكي حين سألني لطفي الحمزي قائلاً:«أما زلت تسكن في بيتكم القديم؟» ثم أضاف:«لم تهتموا بترميمه». فقلت بصوت خجول:«لم نستطع.. مات الوالدان وتزوجت البنات فتزوجت فيه».. وتحول شعوري بالخجل إلى شعور غريب ولكنه ثقيل وأنا أقول:«لم نغتصبه منكم».. لكنه لم يعقب.. ثم مرت دقائق في ترديد عبارات ترحيب مكررة لم تخل من نفاق، فانسحبت من (الحلقة) بهدوء وعدت إلى البيت.

زوجتي تعودت على احترام صمتي فلم تسألني عن سبب كآبتي، خلصتني من ثرثرة أمنية - ابنتنا الوحيدة- بإغرائها للبقاء معها في (المخزن) لمشاهدة فيلم للأطفال، وفي (الدارة) نفضت (طراحة) الفراش الملقى على الأرض لأنجو من (الدر) ثم اضطجعت.. عينه الزجاجية لم تشعرني يوماً ما بعذاب الضمير.. فسألت نفسي عن سبب مشاعري المهزومة! لتتدفق في رأسي الذكريات وكأني أستعيد ذاكرتي من جديد.

زمان.. كان لطفي عبدالمجيد الحمزي يسكن في (الحافة طولي ) المقابلة لـ(حافتنا) وكلتاهما شارع واحد اسمه إلى اليوم (شارع مراكش)، وفي (الحافة طولي) كانت أسرة عبدالمجيد الحمزي تسكن بيتاً من ثلاثة أدوار مشيداً بالحجر المنجور، وبيتنا كان دوراً واحداً من (اللبن) و(الياجور)، لكن لطفي كان زميلنا في (المدرسة الشرقية) وفي الشارع كان يلعب معنا (نجحت البرمة).. (فتاتير).. (حب حبين).. (من كبته طيار).. أليس من الغريب أنني مازلت أذكر هذه الأسماء؟ فهل يذكرها هو؟ لا أدري.. لم نكن نختلف كثيراً ونحن نلعب إلا حين تندلع معارك طاحنة بيننا وبين أبناء (الحافة طولي).. معارك لم أعد أذكر أسبابها، لكني لا أنسى الأسلحة التي كنا نستخدمها.. قراطيس صغيرة نملؤها بالتراب لنتراشق بها.. كل رشقة كانت بحجم قنبلة يدوية.. أتخيلها اليوم كقذائف المنجنيق مقارنة بسواعدنا البضة حينها.. لكن القراطيس لم تكن متوفرة بكثرة في (حوافي) زمان، ولم نكن نعرف أكياس (العلاقي) المنتشرة اليوم في الأسواق والشوارع والأزقة.. فكنا إذا احتجنا لمزيد من القذائف لنصد هجوماً شرساً يشنه علينا أبناء (الحافة طولي) أسرعنا إلى بيوتنا لنبحث عن الأكياس (الكاكي) التي كان (الشحاري) يعبئ فيها احتياجاتنا الشهرية من (الراشن) ومشترياتنا اليومية، النوع الجيد من الأكياس (الكاكي) كنا نحن الفقراء نستخدمه في تغليف دفاترنا المدرسية.

أذكر جيداً أن أهالينا لم يتدخلوا يوماً لفض تلك المعارك الطاحنة، كانت في نظرهم (لعب عيال)، لكنهم يبادرون بوقف القتال إذا لجأ طرف منا إلى السلاح المحرم ورشق الطرف الآخر بالحجارة كسلاح مدمر يستخدمه أحياناً طرف نفدت قذائفه الترابية ويرفض الاعتراف بالهزيمة.. وفي إحدى تلك المعارك التقطت حجراً من على (الفوت بات) وسددته على الخصم فاقتلعت عين لطفي عبدالمجيد الحمزي.

شعرت بالملل من استرجاع كل هذه الذكريات، كانت أمنية قد نامت فرقدتُ إلى جانب زوجتي.. لكن لطفي الحمزي لم يمد يده إلى وجهي ليقتلع عيني اليسرى..بل شب حريق وبدأت الجدران تتداعى ثم هوى سقف (المخزن) فوقنا نحن الثلاثة.. أنا وزوجتي وأمنية.

كانت زوجتي تضغط بيديها على صدري المنتفض بدقات قلبي العنيفة المتلاحقة، وكنت أصرخ مذعوراً.. ثم هدأت حين استوعبتُ ما كانت تردده لتطمئنتي قائلة : اصح يا أبا أمنية.. ولا تخف.. إنه (الدكاك)!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى