قصة قصيرة بعنوان (الرأس)

> «الأيام» ياسر عبدالباقي:

> أخفاك والدك في سلة من القش ورماك في النهر. هكذا بدأت تحدثني أمي، بصوتها الهادئ الجميل، أردت أن أتفوه بشيء إلا أني عجزت. بقي ثغري مفتوحاً بدهشة ممزوجة بعدم التصديق، وسألتها: وأنت من تكونين؟ ابتسمت، ووضعت يدها على ذقني بلطف وتمتمت: أنا امرأة عجوز، أخذت على عاتقي أن أربيك وأجعلك أفضل رجال قريتك، ها أنت لم تبلغ بعد العشرين، لكنك أقواهم وأشجعهم.

قلت غير مصدق: لم أشعر يوماً أنك لست أمي، لماذا أبي رماني في البحر.

نظرت إلى وجهي طويلاً، وكأنها تتفرس وجهي، ثم نهضت فجأة، ودخلت المطبخ وأحضرت وعاءً مليئاً بالدقيق، قالت بصوت حزين ويدها تدلك الدقيق بالماء: ليحميك من الثأر، بني هي قصة طويلة مؤلمة، قبل عشرين سنة كانت هناك عائلتان في القرية المجاورة لنا، كل عائلة تكره الأخرى. إحدى هذه العائلات هي عائلة والداك، عائلة ذات نفوذ وقوة والعائلة الأخرى كانت ضعيفة جداً، وطمعت العائلة الغنية بأرض العائلة الأخرى، وحدث بينهم اقتتال و...

وسكتت أمي العجوز وراحت لتحضر الماء وتصبه على الدقيق وكنت أراقبها، والقلق قد تملكني، قالت وهي تنظر إلى الدقيق: ستصبح العصيدة التي تحبها جاهزة بعد دقائق.

لم أعد أحتمل الانتظار فصرخت: ماذا بعد ذلك يا أمي.

نظرت إلي مبتسمة، ابتسامتها التي تشعرني بالدفء والاطمئنان، قالت: فقدت العائلة الفقيرة كل شيء، قتل أبناؤها الصغار الثلاثة، والزوج، أما الزوجة فإنها استطاعت الهرب.

قدمت لي أمي العصيدة: كلْ يا ابني العزيز.

ثم تابعت تقول ورأسها إلى سقف البيت: أنت أخفاك والدك في سلة من القش ووضعك بالقرب من النهر، حتى لا يقتلوك.

هتفت بذهول: ولماذا لم يخف أخوتي معي.

قدمت وجهها نحوي وقالت بصوت محشرج ومؤلم: ألم تفهم بعد؟! أنت ابن العائلة الغنية الوحيد. لقد أخفاط والدك حتى لا يصل إليك أحد.

كادت العصيدة أن تحنقني، تحركت في مكاني، وقلت في كلمات متعلثمة: يا الله.. أنا.. بقيت جالساً في مكاني كانت الصدمة قوية، بدأت أشعر بصعوبة التنفس والجفاف في حلقي، توقفت عن أكل العصيدة ورحت أشرب الماء بكثرة، وكانت أمي واقفة ووجهها نحو جدار.. سألتها والكلمات تخرج من فمي بصعوبة: لماذا إذاً لم تأخديني إلى أبي.

قالت وفي صوتها رنة غريبة لم أسمعها من قبل: لقد أقسمت الأم بالانتقام.

أعدت إليها السؤال وكانت الكلمات تتحشرج في حلقي: لماذا.. لم تأخديني إلى أبي.

استدارت وتقدمت راكضة نحوي، وكاد وجهها يلتصق بي، أخافني شكلها وأخافتني وهي تتكلم، كانت تقذف الكلمات على وجهي: كل يوم ومثل هذا الوقت يذهب والدك للبحث عنك في النهر. كانت الأم تراقبه وتتلذذ وهي تراه يبكي ويتعذب، لقد أقسمت بدماء أولادها وزوجها بالانتقام.

أحسست بأن جسدي كله مقيد لم أستطع التحرك، وكأن الشلل قد أصابني، أردت أن أتكلم، لكن فمي بقي مفتوحاً دون أن أتفوه بكلمة واحدة.

قالت وهي تنظر إلى العصيدة: إن العصيدة طعمها اليوم مختلف جداً. وضحكت. وسقط جسدي على الأرض، حاولت أن أجر نفسي إلى خارج البيت، لكني لم أستطع. بقيت في مكاني وكأني مقيد بجبل، سمعتها تقول: أكثر ما تتمنى الأم، وهي ترى وجه والدك وهو يرى جثة ابنه بين ذراعيه.

أدرت عنقي نحوها بصعوبة، شاهدتها تذهب بخطوات ثقيلة إلى الدولاب وتخرج منها لفافة قماش قديمة، كنت قد سألتها منذ سنوات: ماذا تخفين في هذه اللفافة يا أمي، ابتسمت لي ابتسامة ساحرة، قبلتني وقالت: إنها هديتك عندما تكبر سأعطيك إياها.

ها هي الآن تفرش اللفافة أمامي وتسحب منها هديتها لي سيف طويل، التمعت عيناها على صفيحة السيف.وتقدمت مني بالخطوات البطيئة نفسها، حيث كنت جالساً عاجزاً عن الحراك، سوى عيني أتحكم بهما، رأيتها ترفع السيف عالياً، حاولت أن أحرك جسدي بعيداً عن السيف، لكن جسدي المشلول، قيدني في مكاني.

توسلت إليها بعيني أن تبقيني حياً، وجهها كان متجهماً، حدقت بي للحظات بقسوة، ثم.. هوى السيف للأسفل وتدحرج رأسي في الغرفة مبعثراً العصيدة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى