الواقع الجديد يتطلّب واقعية جديدة

> كلوفيس مقصود:

> لم يعد خافياً ان الرئيس الاميركي جورج بوش قرر ان ينتقل من تخويف معارضي سياساته الدولية اجمالاً وفي العراق خصوصاً الى ترهيبهم باعتبار ان تعاظم التشكيك بسلامة قراراته يهدد رصيده في احكام التاريخ من جهة، اضافة الى ظاهرة الابتعاد عن الالتصاق به من مرشحي حزبه الجمهوري في انتخابات الكونغرس اوائل تشرين الثاني المقبل، واذ تشكّل عطلة عيد العمال في اميركا غداً بدء الحملة المفتوحة على مصراعيها، قرر فريق بوش - تشيني - رامسفيلد استباق تحدي المعارضة الآخذة في الوضوح والاتساع، باللجوء الى سياسات الاسترضاء ومحاولة تشبيه المعارضين الديموقراطيين وكثر من الجمهوريين بسياسات تشمبرلين قبيل الحرب العالمية الثانية، وبالتالي بكون الرئيس بوش هو تشرشل "الحرب على الارهاب"!

كما ان الخطب الاربع التي سوف يلقيها، وآخرها في 11 ايلول في الذكرى الخامسة للعمليات الارهابية التي قام بها "تنظيم القاعدة" في كل من نيويورك وواشنطن ستكون تتويجاً لتصريف عناصر الاستراتيجية القائمة على حرب لا هوادة فيها على "الاسلام الفاشستي" والذي "ان لم نحاربه في أرضه فسوف يحاربنا في مدننا". فالرئيس بوش ينتقل من تأكيداته السابقة على الانتصار القادم الى التركيز على الاضرار الفادحة التي تنتج من الاخفاق في حربه على الارهاب.

وتدور معركة الرئيس بوش وادارته مع الارهاب في معظمها في منطقة الشرق الاوسط، اذ قال في خطابه امام مؤتمر المحاربين القدامى في "سالت لايك ستي" في ولاية يوتا: "نستطيع أن نسمح للشرق الاوسط بأن يستمر في مسيرته التي أدت الى 11 سبتمبر، وفي عقدين نواجه منطقة تسيطر عليها دول ارهابية وحكومات ديكتاتورية متطرفة لديها اسلحة نووية، أو نستطيع أن نحول دون ذلك بتعبئة العالم لمواجهة عقيدة الكراهية وتوفير مستقبل الأمل لشعوب الشرق الاوسط". ويستعيد المحلل السياسي في جريدة "النيويورك تايمز" دافيد سانغر، نهج الرئيس ليندون جونسون في حرب فيتنام عندما اشار الى ان التقاعس في استمرار الحرب من شأنه أن يؤدي الى نظرية الدومينو "التي تؤول الى انتشار الشيوعية في جنوب آسيا وما بعدها".

***

الا ان سياسات التخويف عام 2004 خلال الحملة الرئاسية والتي مكّنت بوش من اعادة انتخابه لم تعد واردة بالقدر نفسه لما يعانيه من هبوط كبير في شعبيته، كما ان استمراره في حالة الانكار، وتجرؤ المعارضة المتنامية على الرد الفوري باستحضار الحقائق وتفنيد تزويرها بالادلة الدامغة يدفعان فريق الرئيس بوش الى الانتقال من مرحلة التخويف الى مرحلة الترهيب، مما أدى بوزير الدفاع رامسفيلد الى ان يجيب عن الردود الحاسمة قائلاً لزعيمة الاقلية ريد ويبلوسي في الكونغرس، ان "الاعلام اساء تفسير خطابي" امام مؤتمر قدامى المحاربين. فأجابته زعيمة الاقلية الديموقراطية في مجلس النواب: "اذا كانت قراءتنا لخطابه لم تكن في محلها فعليه ( رامسفيلد) أن يفسّر ماذا يعني. واذا كان شديد الاهتمام بالمقارنة بالحرب العالمية الثانية فيجب أن يفسّر لماذا يحارب جنودنا في العراق مدة اطول من تلك التي احتاج اليها جنودنا للانتصار على النازية في اوروبا؟".

ان اشارتنا الى خطاب بوش، وقبله رامسفيلد، ومن ثم دعوة السلك الديبلوماسي في واشنطن الى خطابه الثلثاء (بعد غد) هو مردها الى أن عالمنا العربي هو بؤرة تصويب ركائز الاستراتيجية الاميركية في تصعيدها المتواصل على عناصر الممانعة والمقاومة. وهذه الاستراتيجية تشمل غالبيتها بدون دراسة دقيقة أو تحليل جدي، مما يؤدي الى مزيد من التفكيك وافقاد المناعة واستباحة الحقوق واستنزاف الدماء وفرص التوحد و النمو والديموقراطية.

***

ما العمل اذاً أمام توسع تعريف الإرهاب واحتمال جعله شاملاً بقوى تغييرية واصلاحية ومقاومات شرعية، وكون القاموس الترهيبي الجديد يحتوي تعريفات ساهمت ولا تزال في تعميمها اسرائيل وانصارها المحافظون الجدد، وامام التضييق لحق المعارضة والمساءلة والتصدي داخل الولايات المتحدة نفسها؟ وكيف يواجه العرب هذا المنعطف فيما سميناه سابقاً بالثنائية الخطرة "الارهاب ومكافحة الارهاب 2". بادئ ذي بدء علينا إدراك ان تطورات حصلت في الساحتين الاميركية وفي "الساحة الشرق الاوسطية".

هذه التطورات يجب ان نتدارسها ونستوعبها مجتمعين بمعنى التناسق والانتظام لا بمعنى الامتثال والتطابق. وكان في ودي أن يقوم الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بمبادرة تعبئة تشمل خبراء صناع قرار ورأي ومتمرسين وغيرهم، الا ان الترحيب بالفكرة كان دوماً ايجابياً وحاراً، اما التنفيذ فكان مغيباً وظروفه على ما يبدو صعبة.

ولكن بإزاء التحديات المستجدة لا مفر من ايجاد آلية تجمع بين مختلف المعنيين كي يحللوا البدائل، ويجب أن تلتئم هذه المجموعة على وجه السرعة لوضع دراسة حول سبل التعامل عربياً مع المرحلة الراهنة وما افرزته وتفرزه وما حصل ولا يزال في كل من لبنان والعراق والسودان وخصوصاً في فلسطين. كما ان التصعيد في الخطاب الاستراتيجي لادارة بوش يتحداه صعود مميز لمواجهته في الداخل الاميركي بالذات وفي كثير من فئات الرأي العام الدولي. ألا يجدر ان يكون للعرب خطاب موحّد ومضيء ديبلوماسياً واعلامياً يفند ويوضح ويقترح ويحاور في الوقت نفسه، بدل ان يغيب الخطاب العربي الموحد ويبرز تصميم النظام العربي السائد على تغييبه؟ ألم يحن الوقت لتقوم القمة العربية فتنعقد فوراً وتستحضر على غرار ما قامت به عام 1982 عندما اوصلت الى الدول الدائمة العضوية قراراتها في فاس بعد غزو اسرائيل للبنان؟ ولكن أي قمة تنعقد ولا تكون مستوعبة وهاضمة اقتراحات حصيلة التلاقح الفكري مع تجارب المجتمعات المدنية وصناع الرأي لن تخرج بالموقف الديبلوماسي والسياسي الموحد بما فيه الكفاية، كما ان احتمالات الاقناع تكون دون المستوى المطلوب، فتبقى اعدل قضية للعرب مخدومة، كما هي عليه الآن، أسوأ خدمة.

امام العرب موحدين فرصة قد لا تتكرر في المستقبل المنظور، تتطلب ربط القول بالفعل، والاستعداد لنقد الذات واعادة النظر. وذلك طبعاً في ضوء المستجدات عندنا، خصوصاً في لبنان وفلسطين، والاستعداد لتقبل النقد من موقع التزام حتمية المناعة القومية لئلا نتعرض مرة اخرى لمن يريد ويرغب في أن يملأ الفراغ الذي يحدثه التمييز بين الانظمة العربية نفسها، والانظمة وشعوبها، والفئات المكونة للأوطان مما يحول دون الوحدة الوطنية، ناهيك بالوحدة القومية.

كما ان بوادر التفكيك بدأت تظهر على ما يبدو في استبدال العلم العراقي بالعلم الكردي في كردستان العراقية. ولماذا لا يكون العلمان الوطني والاقليمي؟ وفي ما هو حاصل في لبنان تحت ستار "حكومة الوحدة الوطنية" والجدل الذي لا يعبّر عما يُضمر. وفوق ذلك هناك عدم استعداد كل من رئاسة السلطة الفلسطينية وحكومة "حماس" لاعادة النظر جذرياً في المعادلة القائمة حالياً، اذ ان الصيغة القائمة لا هي دولة أو مشروع دولة محتملة، ولا هي اطار لمقاومة واضحة المعالم. وهذا الالتباس يبقي الشعب الفلسطيني في حالة توقع تلبية حاجته (كما في الاضرابات الاخيرة) من سلطته الوطنية، أي الدولة. وتبقى المقاومة غير قادرة على ضبط الارتجال والتسيب والفلتان.

من هذا المنظور نقرأ قول قائد المقاومة اللبنانية في حديثه الى تلفزيون "الجديد" انه لو كان مدركاً ان الرد الاسرائيلي سيكون بهذا الشمول والشراسة لما كانت المقاومة اقدمت على عملية اعتقال الجنديين. هذا الاقرار، رغم وجاهته والنقد الذاتي الضمني، لا يزيل حق المساءلة ولكنه لا ينتقص مطلقا من ضرورة المقاومة وحقها في استعادة الارض والمساهمة في التصدي والاستعداد. ولكن ككل مقاومة جادة - و"حزب الله" من اكثر المقاومات العربية وضوحا وجدية - عليه ان يشارك ويشرك اللبنانيين الملتزمين مثله في درس موازين القوى ونيات العدو وتجنب المباغتة وما قد يتصوره بعضهم تفردا بقرار مصيري هذا يعني ايضا ان على الدولة في وضع المواجهة ان تكون دولة مقاوِمة بالمعنى الذي تفرضه حالة عداء مع اسرائيل.

وكما في لبنان كذلك في فلسطين التي ألمحنا الى وضعها الراهن. على السلطة ان تعيد النظر في شكل عاجل لكون دور المقاومة فيها هو التعبير الاوضح للصراع العربي - الصهيوني. وتبقى الحقيقة الجارحة انه من العيب ان تبقى دول مطبعة او ساعية الى التطبيع، وأن تبقى المقاومة وثقافة المقاومة محصورة في لبنان وفلسطين. كذلك الامر في العراق، المرشح المستمر لتكون نقطة الانطلاق لتبريرات ادارة بوش للاستمرار في المستنقع الدموي، مما يحتم على المقاومة العراقية للاحتلال ان تعتبر المعارضة الحاضرة بقوة للاحتلال بعداً متأصلا في المقاومة، وأن تعمل على تطهير نفسها من عناصر دخيلة عليها وأن تستقوي بشرعيتها وبإمكان احتضان المعارضة العراقية لها.

***

اما في ما يتعلق بإعادة فتح ملف الصراع العربي - الاسرائيلي في مجلس الامن، فهو مع أهميته وضرورته لن يؤدي الى الحد الادنى المطلوب اذا لم يرافقه قرار بقطع العلاقات الديبلوماسية - العربية مع اسرائيل، حتى لا يتلعثم محمد حسنين هيكل - وهو كثير الوضوح والتسلسل - كما حصل عندما حاول في مقابلة مع "الجزيرة" ان يختزل مشاعر ومطالب اذ قال لم لا"؟

امامنا فرصة لتصحيح المعادلة القومية واستقامتها والمساهمة في استقامة التوازن في المعادلة الكونية.. ان الواقع الجديد يتطلب واقعية جديدة.

üالمدير السابق لمكتب جامعة الدول العربية بواشنطن

عن «النهار» اللبنانية

3 سبتمبر 2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى