في الذكرى الـ7 لرحيله .. البردوني صوت بارز بين الأصوات الشعرية التي تقتحم دروبًا جديدة في أرض الشعر العربي المعاصر

> «الأيام» محمد حمود أحمد:

> بمناسبة حلول الذكرى السابعة لرحيل شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني في 30/8/2006م، وفي إطار الفعاليات الأدبية الثقافية لإحياء ذكراه ودراسة أعماله الشعرية والنقدية التي خلفها في ساحتنا الأدبية، ولازالت تثير اهتماماً وجدلاً واسعاً، وقد تناولت العديد من الدراسات النقدية وأطروحات الماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات العربية وجامعات العالم، أعمال البردوني بالدراسة والتحليل والتحقيق والترجمة، وحظي الرجل في حياته وبعد رحيله باهتمام نقاد الشعر والمفكرين العرب عامة لآثاره الفكرية وطروحاته النقدية التي لا تقل أهمية عن دواوينه وذخيرة نتاجاته الإبداعية التي مثلت ذروة التجديد في الشعر المعاصر.

وفي ندوة أدبية تناولت الخصائص الشعرية وسمات التجديد عند البردوني قال الناقد الشاعر عبدالرحمن إبراهيم : «قليلون هم الشعراء الذين يحاولون أن تكلل أعمالهم بنجاح منقطع النظير واختراق أسوار التقليد والصنعة وتمكنوا من خلق نسيج لغوي مغاير في تركيب الجمل والتعابير وتشكيل الصور الشعرية المدهشة مع محافظتهم على شكل القصيدة البيتي، ذي الشطرين.. وهؤلاء الشعراء جعلوا من إدراكهم العميق للتراث واستيعابهم لقيم الماضي استيعاباً جيداً نقطة انطلاق للدخول إلى المستقبل واستشراف آفاقه. وعلى هذا النحو فإنهم يؤكدون أن المحافظة على تقليد ما لشكل القصيدة أو حتى موضوعاتها لا تعني بالضرورة البقاء في أسر التقليد والصنعة، ذلك أن الشاعر المبدع يمكن أن يظل مبدعاً مع محافظته على الشكل القديم، لأنه في هذه الحالة سيكون قادراً على ألا يجعل للشكل وجوداً ثابتاً مستقلاً قائماً بذاته. فإن مثل هذا كفيل بأن يحول الشعر إلى صناعة.. بل سيصبح الشكل - في حالة حرية الأداء والحركة - متفاعلاً مع المضمون ومتوحداً معه. ويدلل على ذلك قائلاً:«ولعلنا نجد في تجارب الأسلاف من الشعراء كأبي نواس والبحتري والمتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهم، دليلاً ناصعاً على ذلك. وهؤلاء تمثلوا التقليد واستطاعوا في حدود الأشكال القديمة أن يفجروا طاقات جديدة، يحررونها ويضيؤونها ويبقونها متوهجة بعدهم. بل إننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بوجود خاص لكل شاعر من هؤلاء تتحقق فيه رؤيته وموقفه الفكري وبناؤه الفني وإيقاعه وتوثره ولغته التي لا تنفصل عما يقول. وفي الشعر العربي المعاصر ثمة أصوات يهجس إنتاجها بالطموح صوب التجديد والنزوع إلى تفجير طاقات اللغة في علاقات جديدة غير مألوفة نابعة من صميم التجربة الكلية تنسف دلالتها المعجمية وتعيدها مجدداً إلى الحياة.

ويأتي الشاعر عبدالله البردوني صوتاً بارزاً بين تلك الأصوات الشعرية التي تقتحم دروباً جديدة في أرض الشعر العربي المعاصر الملتزم للنظام البيتي المتوارث حيث تتميز لغته بخصائص تجاوزية من خلال محاولته الدائبة في حفر تفريعات لغوية جديدة وابتكار بنائية لغوية فريدة. أي تراكيب لم ينهكها استخدام الشعراء.

ويعد البردوني بحق شاعراً مقتحماً له صوته الجريء، ومغامرته المغايرة لتشكيل الصور الفنية.. وكان عبدالله البردوني يحفر مجرى جديداً لاتخاذ الشكل البيتي، شكلاً للكتابة لا باتباع السائد المألوف على خطى من سبقه من الشعراء، ومن جاؤوا بعده. فهو كان يسعى لتوقيع نصه بخصوصيته وبما يطبع عصره وزمنه من أحداث وقضايا. فالشكل العمودي لم يكن عائقاً في وجه الجواهري كما لم يكن عائقاً في وجه البردوني.

وقدم د. يحيى قاسم سهل مداخلة أشار فيها إلى أنه ليس من اليسير، وليس من الأمور السهلة الحديث عن البردوني فإنه يتكون من طوائف من المؤثرات الشخصية والمؤثرات البيئية والفقهية والثقافية والاجتماعية وليس التحدث عن البردوني من الأمور السهلة فالبردوني كان حياً من يوم ما مات، كما كان أكثر حياة من يوم ميلاده، وهو أحد الشعراء البارزين الذين منحوا الشعر عطاءً وهو شاعر حداثي بكل ما في الحداثة من طموح ومغامرة، في شعر البردوني عالم مفتوح لا غموض فيه ولا التواء:

«يمانيون في المنفى

ومنفيون في اليمن

جنوبيون في صنعاء

شماليون في عدن»

ويمثل البردوني بالفعل قامة ثقافية متسامفة في سماء الثقافة والفكر الوطني الديمقراطي المعاصر، إنه رؤية مفتوحة على ذاتها ومتباعدة عنها في الآن ذاته، ومتصلة بالآخر كسيرورة إنسانية أبداً. والبردوني شاعر بعيد عن التقليد مستقل بمبانيه ومعانيه، لا تستطيع أن تقول إنه يتأثر بشاعر آخر.. إنه نموذج مكرر لقديم أو ما حدث اللهمإلا لمحات هنا وهناك. وليس لهذا أو صورة من ذاك، يتأكد ذلك من الخاصية الأساسية لشعر البردوني. بل لعلها أول ما يميز شعر البردوني عن سواه، ألا وهي الاعتماد في مبنى هذا الشعر ومعناه على السؤال.. والسؤال بطبيعته جدل مع النفس ومع الآخر على السواء ولكن في قصائد البردوني يتوارى الأمر بعيد صوت «الأنا» المفرد. وصارت الغلبة للصوت والصوت الآخر، «للأنا» و«الأنا» فانتقلت القصيدة بذلك إلى الدرامية، وحوار البردوني يختلف عن أي شاعر آخر، تكشف فيه الأسئلة والأجوبة عن الدوافع الخفية والتيارات المتعارضة التي تحرك الطرفين أحدهما إزاء الآخر، البردوني حكيم عليم بأسرار الحياة وحركتها الاجتماعية التاريخية:

«لماذا الذي كان يأتي ما زال يأتي؟

وإن الذي سوف يأتي ذهب؟

**

ها هنا بعض النجوم انطفأت

كي تزيد الأنجم الأخرى اشتعال

وإذا كان البردوني يشترك مع المعري في فقد البصر، فإنه يشترك معه (بلعبة اللغة) وكان البردوني يمارسها بأسلوب معاصر جذاب، حيث امتلك مجرّات لغوية، ولم يتوان عن تضمين الأمثال الشعبية أو بعض التعبيرات اليومية، جديدة، وجريئة. ولغة البردوني ساخرة بامتياز وسخريته من النوع الراقي الذي يمس القضايا والظواهر. وتعتمد سخريته على خلفية واسعة من التاريخ واللغة وأسماء الأعلام والأماكن التي يجيد توظيفها في التعبير عن القضايا التي يعرضها في شعره. لقد ظل البردوني جم العطاء زاخراً به حتى أواخر حياته التي لم ينقطع إبداعه فيها قط، والدليل على ذلك الملحمة الشعرية الموسومة بـ(الطواف) الموثقة بعام 1996م، والمكونة من 131 بيتاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى