نجيب محفوظ.. نموذجاً يحتذى للأداء

> «الأيام» خالد شفيق أمان:

> قرأت موضوعاً في إحدى المجلات موسوماً بـ (محفوظ .. القيمة.. والقيم)، للدكتور سليمان إبراهيم، وقد جاء في مقدمته: يخبرنا تاريخ الحضارة الإنسانية، أن التطور الحقيقي للأمم لم يصنعه جنرالات وقادة الحروب، بل صنعه ويصنعه المبدعون من أبنائها، كتاباً وفنانين وعلماء ومخترعين ومبتكرين، واستطرد: إن نجيب محفوظ كان قمة من قمم المبدعين العرب، الذين أثروا بعطائهم مكتبة الأدب العربي.

ونجيب محفوظ، هذا الرجل «القيمة» بأحلى معاني هذه الكلمة، فهو قيمة أدبية رفيعة، وهي بلاشك ذات مستوى عالمي في علوها قبل حصوله على جائزة نوبل وبعد حصوله عليها- كما يصفها كاتب المقال-، وما كان له أن يبلغ هذه القيمة إلا عبر مجموعة من «القيم» اصطفاها لنفسه ودربها عليها حتى أصبحت دالة على وجوده، وهي دلالة ينبغي أن نكرس الانتباه لمفرداتها، لأنها جديرة بأن تكون نموذجاً يحتذى للأداء، الذي تفتقد مجتمعاتنا العربية الكثير من جوانبه سواءً على مستوى «العامة» أو «النخبة» من أبناء مجتمعنا، ومن أبرز هذه المفردات:

العمل.. العمل.. العمل

يقول نجيب محفوظ في الإجابة عن سؤال يتضمن بعضاً من المديح:«والله ما شعرت بها- العبقرية- لا في أول عمري ولا في آخر عمري، إنما شعرت أني رجل مجتهد ومثابر وشغال ومحب لعملي وأعشقه، فأنا أحب العمل أكثر من حبي لثمرته، ويعني إن جاء لي بالمجد والفلوس، أحبه وإن جاء لي بالفقر أحبه، وإن لم يأت بشيء حتى الفقر، أحبه أيضاً».

وبالطبع.. لم يكن هذا الرد ادعاء للتواضع، بل كان حديث صدق يشهد عليه أداء مرصود ومشهود استمر لأكثر من سبعة عقود، فهو الذي ولد في حي الجمالية بمنطقة القاهرة الفاطمية في 11 ديسمبر 1911م وبدأ الكتابة عام 1928م، ثم أبدع أولى رواياته «عبث الأقدار» عام 1935، وبعد 16 عاماً من الكتابة صعد سلم الإجادة والارتقاء والتكريم حتى كانت الذروة في عام 1988م وهو اليوم الذي تم فيه اختياره من بين (150) مرشحاً لمنحه جائزة نوبل في الآداب، ولم يتوقف بعد ذلك واستمر في إرواء شجرة العمل، حتى بعد الاعتداء الآثم (محاولة اغتياله) الذي وقع عليه في أكتوبر 94م وتسبب في إعطاب يده اليمنى التي يكتب بها، إلا أنه لم يتوان عن تدريب يده على العودة للكتابة.

احترام أمانة الوقت

لقد قدم نجيب محفوظ للأدب العربي الحديث أكثر من (35) رواية ونحو (15) مجموعة قصصية وعدداً من سيناريوهات الأفلام العربية الجميلة، وعدداً أكبر من مقالات الرأي وما يصعب إحصاؤه من الأحاديث المضيئة لبعض جوانب إبداعه وآرائه في شتى المجالات، وهذا كله شيء كثير لا يمكن تفسيره وتبريره بطول عمر الرجل الكبير، لكن التفسير الأعمق هو لعنصر احترام الوقت، احتراماً يوشك أن يكون احتراماً روحياً خالصاً كأمانة أودعها الله بين يدي الإنسان.

يقول نجيب محفوظ عن نفسه: نعم، أنا منظم، والسبب في ذلك بسيط، إذ عشت عمري كموظف وأديب، ولو لم أكن موظفاً لما كنت اتخذت النظام بعين الاعتبار، وقد عودت نفسي على ساعات معينة للكتابة.

والطبع، ليست الوظيفة وحدها سبب تنظيم نجيب محفوظ وقته الثمين، فكم من الموظفين يحترفون إهدار وقتهم ووقت الناس، في عالمنا العربي، حتى أصبحت ظاهرة إضاعة الوقت والإهمال في إنجاز الأعمال سمة بارزة من سمات التخلف العربي، ليست الوظيفة، لكنه الموظف النادر المبدع، بعيد النظر، والمخلص للمشروع الذي كرس له حياته.

الحرية عبر البساطة

يقول نجيب محفوظ: اتصلت علاقتي بالأستاذ يحيى حقي، أديباً بأديب، بل إلى ما هو أعمق من ذلك المستوى الإنساني، وإن كنت كموظف ملتزم أقوم لتحيته إذا أقبل، وإن كان هو قد أنكر ذلك السلوك مني باعتباري أديباً كبيراً كما كان يقول، ولكنني كموظف أعطي للوظيفة حقها، فهو مديري، يعني مديري، رغم الصداقة والعلاقة الإنسانية، لكنه حين يأتي لابد من الوقوف تحية له، لا أعرف غير ذلك سلوكاً من موظف نحو رئيسه، فذلك نوع من التحية وأدب الوظيفة.

التسامح دون تنازل

ولعل نجيب محفوظ في الاتفاق والاختلاف يكون نموذجاً عربياً فريداً، يستحق أن يحتذى، وقد ظل عبر حياته الفكرية الطويلة تجسيداً حياً لمبدأ الترحيب بالاختلاف وقبول الرأي الآخر.

لقد أسس نجيب محفوظ لأمته العربية مدينة رائدة وعامرة للرواية العربية ذات المستوى العالمي، وهي جديرة أن نتمثلها بصفة مستمرة وأن تسكننا ونسكنها فهي «القيم» التي أعلاها بسلوكه الفريد، وبالعمل وصيانة أمانة الوقت وإعلاء قيم التسامح وحسن الحوار والزهد والتواضع، كل ذلك بروح صافية ونفس راضية ذات دعابة راقية ذكية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى