قصة بعنوان (طلع وقص..!)

> «الأيام» علي سالم اليزيدي:

>
علي سالم اليزيدي
علي سالم اليزيدي
سيارة نقل من الجيل القديم الذي عايش الحرب الكونية الأخيرة، مقدمة السيارة مطلية باللون الأسود وتتسع للسائق، أو كما يطلق عليه بالدارجة (دريول) بالإضافة إلى راكب بجانبه، ويطلق عليه المقدم حيث يجلس السائق خلف عجلة القيادة وهي تشبه عجلة في حجم عجلة عربة خيل من القرون الوسطى بأوربا، ويحتاج السائق إلى مهارة فائقة للإمساك (بالسكان) مثلما يسميه الناس، وكلما سار في الطرق الوعرة هنا أو هناك، تسمع كلمات طلع وقص يادريول.. وهي كلمات ترتبط مباشرة بسائق السيارة مظهرة لفنونه وبها يتباهى العم سعد الذي اشتهر بسيارته الحمالي والسطحة الخشب، ويوغل هذا الرجل الضخم الجثة بأنه صاحب حرافة ودريول لا يعلم خفايا (درولته) إلا القلة من أبناء مدينته. فكلما وصلت سيارة هذا العجوز السمين العم سعد إلى الحارة تبشر بعودة حميدة من رحلة غاب فيها أياماً وليالي، حيث قطع بسيارته الحمالي ماركة (بيد فورد) يوزع الارز والسكر والدقيق في الوديان والقرى بعيداً عن المكلا التي تنطلق منها سيارة العم سعد ونفر قليل من أمثاله دريورات ذلكم الزمن الفائت.

-يالله ياعيال، ابعدوا، وين القرشبول، وهو المعاون الذي يرافق السائق رحلاته ومتاعبه! ويعود صوت العم سعد الأجش وهو يرتفع بشدة:

- حط حصاة، السيارة ترجع للوراء.. هيا!!

ويقفز المعاون الصغير برشاقة وخفة تدرب عليها كثيراً، وهو أيضاً يتباهى بأنه كما يقولون عنه (نصف دريول) فهي مكانة رفيعة آنذاك، ولا يحصل عليها كل من هم في سنه من الأولاد أو في فقره وتعاسته، فقد كان اختيار معاون للعم أو لبازمالة أو مرمر، امتيازاً يحلم به كثير من صبية الحارة كل ليلة، وفي انتظار رخصة قيادة السيارة والفوز هنا أولاً بشهادة العم سعد، ثم من الحكومة بالدرجة الثانية، وقد يظل هذا الحلم معلقاً سنوات وسنوات.

يضغط العم سعد بقوة على الفرامل ويرفع رجلاً ويحط أخرى على دواسة البنزين (الليور) فتهدر السيارة وينفث (القزوز) دخاناً ساخناً ويرتفع الصوت وينهال الإعجاب من نساء الحافة والرجال المسنين وصبية الحي.

- هذا معاون ما يقصر، في عقبة الحجي قفز كما الظبي، وحط حصاة، خلا السيارة خيط واحد.. ياسلام.

قالها العم سعد وهو يرشف فنجان الشاي الأحمر أو (السنقل) كما ينطقه الحضارم والحديث موجه هنا إلى الشيبة منصور صديق العم سعد وأصحابه في جلسة ما بعد صلاة العصر، حيث يدور الشاي ويدور الحديث.. ويواصل العم سعد وصف الرحلة، أو (التريب) بلغة السائقين:

-وعاد الغذاء حق اللخم، معاد باوصف! خله يتكلم هو بنفسه!

وينط المعاون فرج الصغير فرحاً بالمديح ويقول:

- في رأس حويرة زاد البرد علينا، ولكن الطبخة ريضت البطن والعقل!

ويعود العم سعد إلى تصدر الجلسة وأمامه المستمعون من الحافة في ولهة العصر فهم معتادون على الحكاوي وقصص البحر وأهل السواحل والصومال..!

- هذه المرة تعبنا، الحمولة زايدة، ويوم ظلينا تحت العلب، قام خرج المعادة، لله دره، وجاب الماء ومرس الرز وفور اللخم وطبخ صيادية ما با تلقيها أم ناصر (ويقصد زوجته) ابداً، ولا حتى طباخ السلطان. وسكت وهو ينظر إلى العيون فقد ذكر السلطان، ونشف ريقه، وصاح: ويا وليد واحد سنقل شاي متقون..!

ويقترب عندئذ شخص من العم سعد ويتحدث معه بصوت يسمعه الحاضرون ويرد العم سعد وهو يمسك فنجان الشاي بيد، وباليد الأخرى قصبة المداعة المحلية.. ياخيربه ! معانا حمولة غداً بعد العصر، لا وادي عمد والطريق حجر.. الله الميسر!

وينام سكان الحارة، وتربض بقربهم سيارة العم سعد في استراحة تنهض بعدها في رحلة نحو الجبال البعيدة عن المكلا، وما أن يبزغ الصبح وقبل الشروق، يصحو السكان وجيران العم سعد على صوت الدقدقة والحديد، فالعم سعد لا تنتهي لديه العلاقة بالسيارة السوداء البدفورد، بالعودة، ابداً لابد من المراقبة والمعاينة، فهذا أمر ضروي طوال الاسبوع حتى يستعد للسفر وهو مطمئن.

-طلع وقص ياعم سعد، قص شمال، ارجع شويه يمين، ذلحين قص يسار.

وتغادر السيارة مكانها ما بين المنازل، إلى بين الجبال، وتذهب وتعود، وكلما ساد الهدوء بضعة أيام، عاد صوتها يهدر في الحافة، طلع وقص ياعم سعد، ويزهو أبو ناصر وهو ينظر بخفة نحو نوافذ المنازل المطلة عليه ويخرج رأسه من المقدم، يا وليد، حط حصاة، يافرج وينك، خلي بالك، السيارة ترجع للوراء..

ويرد عليه فرج، عادك طلع وقص يا عم سعد، لا تخاف ماشيء وراءك.. طلع، وقص.. ويعود صوت العم سعد، لا وين القصة شمال يمين، وين الحصاة..! ويبادله فرج الصغير النغمة ذاتها.. وكأنهما يشتركان في لحن لاغنية مساحتها ونشوتها.. عالم صغير وكبير في آن واحد، لم يصنعه لهما أحد ما، وإنما صنعاه وحدهما بلحنه وسذاجته ونقائه، يترجمان به حكاية لزمن أوله طلع وقص وآخره حط حصاة.. السيارة ترجع للوراء.. حط..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى