«الشورى» ملحمة محمد علي الطاهر

> فاروق لقمان:

>
فاروق لقمان
فاروق لقمان
لما تأهبت للسفر إلى بيروت عام 1964 لأول مرة سلمني والدي رحمه الله رسالة قصيرة لصديق قديم حميم كان يضعه على قائمة أهم وأنبل من عرف، الأستاذ محمد علي الطاهر. وأوصاني أن أبحث عنه بعدما ترك مصر إثر انقلاب 1952 بقيادة اللواء محمد نجيب.

كان الطاهر - الفلسطيني الأصل- أشهر من نار على علم في العالم العربي خلال الثلاثينات عندما كانت مصر ترحب بكل لاجئ عربي وإفريقي وتمده بتكاليف المعيشة والسكن وتسمح له بالعمل السياسي بكامل حريته حتى ضد الاستعمار البريطاني الذي كان يهيمن على البلاد العربية ومنها مصر. فأصدر الطاهر جريدته ورحب بكل وافد ولاجئ وشارد من براثن الحكومات العربية أو المندوبين الساميين الفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين.

ولم أجد صعوبة كبيرة في الوصول إليه في شقته المتواضعة حيث سلمته الرسالة من والدي الذي كان يكاتب جريدته «الشورى» من عدن بأخبار اليمن ومقالات سياسية قبل أن يصدر جريدته الخاصة به «فتاة الجزيرة»، فأمطرني بمائة سؤال وتحدث معي عن آخر لقاء مع الوالد في مصر ولبنان، عن السياسة العربية التي كان قد يئس من القائمين عليها وزهد في المئات من العرب والأفارقة الذين تبنت «الشورى» قضاياهم، واعتذر عن عدم قبول دعوة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الذي كان يكافح الاستعمار الفرنسي من مصر وينادي بالاستقلال عبر جرائد الطاهر «الشورى»، «العلم» و«الشباب» حتى بداية الثورة المصرية.

تعرض الطاهر لاضطهاد بعض الحكومات المصرية خلال حكم الملك فاروق، وإن كان الملك نأى بنفسه عن التنكيل بالصحفيين وقادة الأحزاب الشرفاء قبل أن يخوض معركته الدامية ضد «الأخوان المسلمين» باغتيال الشيخ حسن البنا.

سجل الطاهر ملحمة حياته في عدة كتب منها «خمسون عاماً في القضايا العربية» و«معتقل هاكستب» و«ظلام السجن» وهما كتابان شجعني الوالد رحمه الله على قراءتهما بإمعان عندما كنت في بداية الثانوية بحي الرزميت بكريتر.

وأشهد أني استمتعت كثيراً بحكاياته رغم طولها وبأسلوبه الشيق في رواية تفاصيل هروبه واختفائه في البيوت الشعبية والأزقة الضيقة بعدما كان يشغل مكتبه الذي يقع في شارع الملكة نازلي الشهير في القاهرة وهي والدة فاروق قبل أن يغضب عليها ويجردها من كافة ألقابها. الآن يسمى شارع رمسيس.

ورغم مشاغله بجرائده التي لم يجن منها سوى القليل كان ينفق ما فاض أحيانا على بعض المنكوبين اللاجئين من ريع كتبه سيما سيرة الأمير اللبناني الأديب الشهير شكيب أرسلان الذي لقبوه بأمير البيان أسوة بأمير الشعراء أحمد شوقي وعميد الأدب طه حسين في عقود الخضم الثقافي في مصر عاصمة الأدب والشعر والعلوم والمسرح والسينما والصحافة. والأمير شكيب هو مؤلف كتاب «لماذا تأخر المسلمون» بعد ازدهـار حضـاراتهم في القرون السابقة.

وقد رد عليه والدي الذي كان صديقه بكتابه الشهير«لماذا تقدم الغربيون؟» قبل حوالي ثمانين عاماً.

الطاهر الفلسطيني أصدر صحفه الثلاث في مصر المستعمرة البريطانية، ولم يثر ذلك أي غرابة لأن أبناء زيدان بنوا دار «الهلال» الشامخة وأصدروا منها «الهلال» و«المصور» و«الاثنـين» و«حـواء» و«الكواكـب» وغيرها.

وكانت هناك دار «الأهرام» لأبناء الجميل وتقلا خلال فترة مدهشة في تاريخ الصحافة العربية لم نعهد مثلها بعد ذلك عندما استمتعنا بالاستقلال التام وفقدنا الحرية. لذلك كان بإمكان العربي أن يلجأ إلى مصر ويصدر جرائد في وطنه تهاجم الاستعمار من تطوان إلى عدن كما كنا ننشر قبل ظهور حكومات محلية تدمر الدور وتغلق الجرائد بالشمع الأحمر وتعتقله وتطارده بقصد قتله أو تقتله ثم تسير في جنازته.

عاش الطاهر في بيروت حتى عام 1974 زاهداً في الدنيا ومباهجها لكنه كان، عندما سلمت عليه عام 1964، لا يزال ثائراً غاضباً داعياً على حكام تلك الحقبة البائسة التي دارت فيها رحى الانقلابات والنكبات المحلية الصنع التي أكلت الأخضر مع اليابس.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى