الدكتور محمد عبده غانم .. أوليات كتاباته في الصحافة العدنية

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

> الاستاذ الشاعر والشخصية الثقافية الرائدة د. محمدعبده غانم، من الأعلام الذين كانت لهم عدة اسهامات في تاريخ النهضة المعرفية التي شهدتها مدينة عدن في عصرها الذهبي الذي قاد دعائم تطوره شخصيات مازالت تعد المرجعيات الهامة في قراءة تلك الحقبة من الزمان.

كان ميلاد الاستاذ محمد عبده غانم، في عام 1912م في مدينة عدن وقد حصل على شهادة بكالوريوس في الآداب من الجامعة الامريكية في بيروت عام 1936م وهو بذلك يعد اول جامعي في الجزيرة العربية وكانت بدرجة امتياز وفي عام 1949م حصل على دبلوم التربية العالي من جامعة لندن وعام 1968م نال شهادة الدكتوراه في فلسفة الآداب من جامعة لندن على رسالته «شعر الغناء الصنعاني». شغل د. محمد عبده غانم عدة مناصب منها وكيل وزارة المعارف بعدن واستاذ بكلية الآداب جامعة الخرطوم وكلية الآداب في جامعة صنعاء وقد تولى عمادة كلية التربية ورئاسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب في الجامعة ثم عمل مستشاراً ثقافياً في سفارة الجمهورية العربية اليمنية في دولة الامارات العربية المتحدة وآخر عمل له عين عميداً للدراسات العليا بجامعة صنعاء وقد نال عدة جوائز مثل كأس العروة الوثقى للشعر وجائزة هيئة الإذاعة البريطانية للشعر العربي، ووسام الامبراطورية البريطانية درجة الزمالة، عن خدماته للتربية والتعليم في مستعمرة عدن وفي يناير 1990م حصل على وسام الدولة للتربية والآداب والفنون في عدن وتوفي بصنعاء عام 1994م.

أصدر د. محمد عبده غانم عدة مؤلفات في الشعر والمسرحية الشعرية والنثر نذكر منها في الشعر «على الشاطئ المسحور» عن دار فتاة الجزيرة عدن عام 1944م، «موج وصخر» عن دار المعارف القاهرة عام 1962م، «حتى مطلع الفجر» عن المكتب التجاري بيروت عام 1970م، «في موكب الحياة »عن دار الآفاق الجديدة بيروت عام 1973م. ومن مسرحياته الشعرية: «سيف بن ذي يزن» عن دار العلم للملايين بيروت عام 1964م، «الملكة أروى» أذيعت من لندن ونشرتها جامعة الخرطوم عام 1976م، «عامر بن عبدالوهاب» نشرتها جامعة الخوطوم عام 1976م. ومن كتبه النثرية: «عدني يتحدث عن البلاد العربية والعالم» صادر عن دار مصر عام 1966م، «شعر الغناء الصنعاني» عن دار العودة بيروت عام 1973م وفي هذه المادة التاريخية نقف أمام أوليات الكتابة الصحفية لهذا العلم في صحافة عدن وهي تكشف بعض الجوانب من اسهاماته في نشر المادة الادبية في الصحافة وهو جانب يرصد التطور الابداعي عنده وتعرف بنوعية الافكار والقضايا التي طرحها في تلك المرحلة من التاريخ وكانت صحيفة «فتاة الجزيرة» هي المنبر الوحيد الصادر باللغة العربية صحفياً في مدينة عدن وعبرها نشرت عدة كتابات وبالذات في عام 194م عام صدورها، ونحن نقدم بعضاً من مقالاته.

الشجاعة الحقة (1)

هذا أول مقال نشر لمحمدعبده غانم، في صحيفة «فتاة الجزيرة» العدد (6) بتاريخ 4 فبراير عام 1940م وجاء فيه:«من الخصال الخلقية التي يشترك الخاصة والعامة في تبجيلها والاعجاب بصاحبها خصلة الشجاعة.

فلن تجد أحداً يحط من قدرها الرفيع الا اذا كان غريب الطبع شاذ التفكير.

أما اعجاب السواد الأعظم من الناس بالشجاع فظاهر من حلقات المقائل والاسمار التي تعقد حول قاص يقص على الناس احاديث عنترة او سواه من الابطال ومن هذا الحماس الشديد الذي يبدو على الناس اذ ينال البطل مكروه، ثم ما يعقب ذلك من الارتياح العظيم لنجاته وانتصاره.

ولقد يذهب الحماس ببعضهم ان يطلب الى القاص ضارعاً ملحفاً ان يستمر في قصصه اذا ماهو اراد الوقوف في موضع من القصة يكون البطل فيه رهين الاسر او العذاب ولقد قال لي بعضهم انه قد بلغ الحماس بسامر من السمار، في مناسبة كهذه، مبلغاً ذهب به بعد ان انفضت الحلقة، الى بيت القاص واذا به يطرق بابه ويقول له: والله لقد امتنع النوم عني وما لي اليه من سبيل الا ان تسمعني بقية القصة، ولم يزل بالرجل حتى يخرج اليه ومعه الكتاب فيقرأ له الى ان يفرج عن البطل فيتنفس صاحبنا الصعداء ويشكر لصديقه صنيعه ثم يعود أدراجه لينام».

وفي الادب العربي كثير من القصص والقصيد يتغنى بالشجاعة ويمجد البطولة في أشخاص، بعضهم حقيقي، وبعضهم خيالي. وهذه الملاحم العظيمة، في أدب اليونان والفرس أكبر دليل على ما للشجاعة من تأثير في أدب الأمة وأخلاقها.

وقد تفطن الى اعجاب الجماهير هذه بأعمال الشجاعة مؤلفو الروايات من انجليز وفرنسيين وألمان، فألفوا ما شاءت لهم عبقريتهم ان يؤلفوا من أقاصيص رائعة ولم يتحاشوا ان يأتوا في قصصهم هذه بالمبالغات كما فعل إسكندر ديماس، بما جاء به عن بروتوس الجبار، في رواية الفرسان الثلاثة، هذا بالرغم مما وصل إليه العقل في عصر ديماس الكبير من التمحيص والتدقيق في الحوادث.

وما ذاك الا لأن ديماس، كفنان قدير، لم يتقيد بالمنطق الصلب او الحقيقة المجردة في قصه بل اطلق لخياله العنان رامياً الى التأثير على النفوس عن طريق الشعور والوجدان لا التأثير على العقول عن طريق الاقناع والبرهان».

نلاحظ في هذه المادة الصحفية الأدبية بانها تؤرخ لصفة الشجاعة الحقة في عقليات ومشاعر الناس في تلك الحقبة من تاريخ عدن الاجتماعي عندما كانت وسائل التسلية عند العامة تعتمد على الحكايات الشعبية تذاع بينهم في المقائل والمسامرات يقص الراوي عليهم قصص البطولات الخارقة والتي يعمل بها الخيال الدور الاكبر في تحريك صورة الحدث في مخيلة الفرد وهذه الظاهرة لم تكن خاصة بالمجتمع العدني في ذلك الوقت بقدر ما هي وليدة في معظم المجتمعات التي مرت بأطوار متعددة من الثقافات مثلت فيها ثقافة الفروسية حقبة من هذا التنوع الثقافي، وهو يضرب عدة أمثال عند شعوب وحضارات مختلفة ظلت فيها صفات الشجاعة من هويتها القومية.

ويبدو ان الكاتب هدف من طرح مثل هذا الموضوع وهو الاول له في باب الكتابة الصحفية الى جعل أكبر قدر من القراء يتعرفون على اسلوبه وفكره فيما يكتب عبر الصحافة وهو الشاعر الذي قدم للناس من روائع بيانه في هذا المجال وقد ادرك ان هذا النوع من الآداب الشعبية وما يكتب عنها تلقى عند الناس مكانة واسعة وهذا الاختيار كان موفقاً دون شك صحفياً لانه جاء في مستوى ما يرغب الناس.

الشجاعة الحقة (2)

في العدد (9) من صحيفة «فتاة الجزيرة» الصادر بتاريخ 25 فبراير 1940م ينشر الأستاذ محمد عبده غانم، الجزء الثاني من هذه المادة حيث يقول: «وهاك اصحاب اشرطة الخيالة (السينما) والقائمين على اخراجها يستغلون اعجاب الناس بالشجاعة فيأتون في اشرطتهم بحوادث يتجلى فيها هذا الخلق وقد يسرف بعضهم في تصويره حتى يخرجوا به عن حيزه الى نطاق الالعاب البهلوانية والسحر، مستعينين على ذلك بخداع التصوير واذا هم فعلوا ذلك فإنما يلبون رغبة في نفوس الناس وميلاً الى ربط أعمال الشجاعة بألعاب القوى والحيل وما الباعث على ذلك الا الظن بان القوة والشجاعة توأمان وان القوي لا يكون الا شجاعاً والشجاع لا يكون الا قوياً.

ومع ان هناك صلة نفسية بين القوة والشجاعة لما تولد القوة في صاحبها من الثقة بالنفس، الا ان هذه الصلة تشتد وتضعف تبعاً للعوامل التربوية المحيطة بالانسان منذ طفولته الى ان يبلغ أشده.

فإن الطفل مهما كان شديداً قوي البنية لا يلبث اذا رأى حوله خنوعاً واستكانة ان ينشأ جباناً رعديداً، او فظا قاسياً وشتان بين القسوة والشجاعة، فالشجاعة تصدر عن ثقة بالنفس وتتجلى في قدرة المرء على ضبط عواطفه والتغلب على شهواته وميوله الضارة له ولمن حوله. اما التعدي على الغير، والاجحاف بهم والنيل منهم فليست من الشجاعة في شيء، بل انها امور اقرب الى الجبن والغرق.

وسأضرب لك على ذلك مثلاً شخصاً يلقي خصمه على الارض في عراك ثم يقف له حتى يعود الى العراك اذا شاء، وآخر لا يتمكن من القاء صاحبه على الارض حتى ينكب عليه لكماً وصفعاً او يعاجله بضربة على رأسه تخمد أنفاسه.

فأي هذين هو الشجاع ؛ لقد ملأت الثقة بالفوز نفس الاول فهو لا يبالي ان يعود خصمه الى الصراع، وقد طار قلب الثاني هلعاً ان تسنح الفرصة لغريمه فيتغلب عليه فهو يريد ان يقضي عليه مادام قد وجد السبيل الى ذلك.

ولذلك نجد ان القوة اذا لم تصحبها الشجاعة الحقة، تجعل صاحبها أشبه بالوحوش في شراستها وبطشها منه بالابطال في شجاعتهم ورباطة جأشهم. وشتان بين شجاعة البطل وشراسة الوحش فالبطل يدافع عن الشرف ويناضل عن الحرية ولا يبالي بما يحصل له في سبيل ذلك فهو يدين بقول الشاعر:

أكر على الكتيبة لا أبالي أفيها كان حتفي أم سواه

وأما الوحش فإنه يقاتل حبا في البقاء، وخوفاً من الفناء فهو إما ان ينقض على فريسة ضعيفة فيجعل منها غذاءه وإما ان يهاجم عدواً يعلم انه ان لم يقتله قتله. تلك هي شجاعة الوحوش او بالاحرى جبنها الناشئ عن خوفها من الموت وحبها للبقاء. أما شجاعة البطل فهي أعظم وأسمى لانها تنبعث من قلب عامر بالايمان بالنصر، رحيم لانه لا يجد حاجة الى القسوة بل انه يرى الضعيف جديراً بالحنو والعطف، لما يفقد من وسائل النضال والكفاح.

وأما هذان البيتان من الشعر اللذان نسمعها من حين الى آخر:

النواميس قضت ان لا يعيش الضعفاء

إن من كان ضعيفاً أكلته الاقوياء

فلا يمثلان حياة البشر السامية اذا انهما يجردان الانسان من صفات العطف والرحمة والشفقة وتلك لعمري صفات اشتهر بها الانسان. واذا كانت هناك مواضع في تاريخ البشر وحياتهم تتجلى فيها القسوة فإنما ذلك نزوع الى الهمجية في نفوس الناس مصدره الغريزة الحيوانية، يعطفون عليه في بعض الاحيان ثم لا يلبثون ان يتخلصوا منه بفضل ما أحرزته البشرية، في ارتفاعها عن مصاف الحيوانية، من بطولة وشجاعة».

في هذا الجزء من المادة يتحول الكاتب من وصف الشجاعة كظاهرة اجتماعية الى التحليل النفسي لها وتوضيح العوامل المؤثرة والمساعدة في ظهور هذه الخاصة عند الافراد، كما لا يغفل بعض الاسباب التي تطبع نفسية الشخص عندما يتكون ادركه مع نشوء صفات كل حالة منهما، وهو يربط بين المسببات الذاتية والحياة الاجتماعية.

الحياة والموت

نشر هذا الموضوع في العدد (37) من صحيفة «فتاة الجزيرة» بتاريخ 8 سبتمبر 1940م وجاء فيه:«اشتغلت ذات ليلة من هذه الليالي بالتفكير في الحياة والموت، وطرأ علي ان أحاول فهم السر الذي من أجله كانت الحياة والموت. وكم قد حاول ذلك جهابذة الفكر من قبل فخرجوا بنتائج لا تلقي على الحقيقة الا بصيصاً من نور يضطرب هنا وهناك فينير بعض الزوايا فترات قصيرة جداً.

وكل انسان مهما بلغ من السذاجة وعدم المبالاة بالامور لابد مفكر في هذه المسألة يوماً من الايام بالطريقة التي يعرفها.لأن الحقيقة التي لا مراء فيها هي ان مسألة الموت والحياة هي اعظم المسائل اهمية واكبرها خطورة. واذا كان الكثير من الناس يحاولون طرد هذه الافكار من اذهانهم عندما تعتريها فما ذلك الا لما يجدونه من صعوبة التأمل فيها. ويكفي ان الاديان على اختلافها تعير هذه المسألة اكبر اهتمامها وتعنى بتفسيرها كما يفعل القرآن الكريم حين يقول: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وحين يقول: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).

غير ان التفكير في الموت والحياة لا يقتصر على السر الذي وجدا من اجله، بل يتشعب وينحو مناحي شتى ويدور بصورة خاصة حول طبيعة الموت وهل هو نقيض الحياة ام هو نهايتها ليس غير.

ولا يلبث المفكر في هذا الموضوع ان يتساءل عن الطريقة التي بها تزول الحياة وتنقضي بعد ان كانت دافقة فياضة. فهذه الورقة الخضراء لا تلبت ان تبدو صفراء، وهذه العادة الفاتنة يدور عليها العام فإذا بها جثة نتنة.

كم صائن عن قبلة خده سلطت الارض على خده

وحامل ثقل الثرى جيدة وكان يشكو الضعف من عقده

فكيف زالت عنهما الحياة؛ اذا كان الموت طبيعياً قال قائل انها القوى الهادمة في انسجة الكائن الحي قد تغلبت على القوى البانية، او ان عضواً هاماً كالقلب او الدماغ في الانسان مثلاً قد فقد تماماً القدرة على مواصلة القيام بوظيفته. ولكن لماذا تتلاشى القوى البانية امام القوى الهادمة، ولماذا يفقد العضو الهام في جسم الكائن الحي القدرة على القيام بوظيفته؟ فيقول قائل ان ذلك أمر طبيعي في الانسجة الحية فهي غير قادرة على حفظ حيويتها مدة غير محدودة. وهنا يقف الايضاح والتفسير ويعجز العلم عن وقف جيش الفناء عن مهاجمة حامية الحياة والقضاء عليها.

ثم ما هو هذا الشعور الذي يستولي على المرء اذا ما فكر في الموت؛ وما هذا الخوف العظيم الذي ينغص عليه عيشه كلما ذكر الموت؟ ولماذا يخاف الانسان من الموت ولماذا يطمع في ان يعيش طويلاً وهو يعلم حق العلم ان النهاية واحدة وان الايام التي يعيشها قلت او كثرت ستمر وتنقضي فإذا نظر اليها بعد انقضائها وجد قليلها وكثيرها سواء؟ وبعبارة اخرى لم هذا التعلق بالحياة واسبابها مع العلم بانها فانية؟ أهو لأن الحياة أمر ألفناه وأنسنا اليه وان ما بعد الحياة محاط بالغموض؟ أم هو لأن للموت ألماً جسمانياً يشعر به الانسان عند مفارقة الحياة فيخاف الموت لخوفه من الالم الذي يصحبه او بالحرى يتقدمه مباشرة. نحن لا ندري بالضبط مقدار الالم الذي يعانيه المرء عندما يعالج سكرات الموت ولكني أذكر انني قرأت مرة عن رجل قضي عليه ان يموت في الصحراء جوعاً وكان رحالة فتمكن من ان يدون وصفاً لحالته وشعوره قبيل الموت وقد ذكر فيما استطاع ان يدونه انه عندما كان يدنو من الموت بدأ يفقد الشعور بالالم تدريجياً ولم يزل كذلك حتى شعر بالراحة التامة. على ان المرء يستطيع ان يحكم من مشاهدة رجل في دور النزع انه ليس في حالة يحسد عليها.

وربما كان الموت فجأة كالموت بالسكتة القلبية او برصاصة طائشة او شظية تصيب مقتلاً أخف وطأة على النفس من موت الاختضار لأن موت الفجأة قليل الالم على ما نعلم ولانه يخلصنا من ذلك الشعور المريع الذي يشعر به المنتظر للموت قبل ساعات من موته ولاسيما اذا كان متمتعاً بكامل صحته وقواه العقلية».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى