في ساحة العروض

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
أكتب هذا المقال الجمعة الموافق 20 من اكتوبر الحالي، ليتسع الوقت أمامه للرحيل وأخذ مكانه في «مصفوفة» الأحد وهو التعبير المفضل لحكومتنا الموقرة ورئيس وزرائها وأمين عام حزبها الحاكم الأستاذ عبدالقادر باجمال على وجه التحديد، وليكن، ففي تجديد المصطلحات واستلهام وتفعيل الاشتقاقات ما يبعث على الحركة التي يقال إن فيها بركة، ولذلك لا أعرف على وجه اليقين فيما إذا كان اليوم يوافق عيد الفطر المبارك أم أنه المكمل للثلاثين يوماً من الشهر الفضيل، وفي كل الأحوال مبارك عليكم جميعاً العيد وعساكم من عواده.

في العشر الأواخر هُيّئ لي أن صديقاً عزيزاً مشهوداً له بالكرم والاريحية قد دعاني إلى مأدبة إفطار مع آخرين في منزله العامر بخورمكسر، وحين وصلت إلى البوابة بعد الأذان بدقيقة أو دقيقتين لم أر ما يدل على حضور من أي نوع، فلا سيارات ولا أصوات والباب الكهربائي محكم الإقفال، ومع ذلك ضغطت على الجرس مراراً وتكراراً حتى تمثلت بذلك البيت الشهير:

لقد أسمعت لو ناديت حياً üü ولكن لا حياة لمن تنادي

طبعاً علمت فيما بعد، حين العلم لا يجدي الفتى، أن «العزومة» كانت على المقيل وليس الإفطار والعشاء وأن الجرس قد سُمع ولكن الظن رجح أن الطارق واحد من الواقفين على باب الله ممن يملأون البلاد طولاً وعرضاً.

أما ما كان من تدبيري لإفطاري فقد قررت الذهاب إلى أحد مطاعم ساحة العروض بدلاً من العودة بخيبتي إلى بيت أخي في البساتين، بعد أن أبلغتهم بأنني مستضاف على إفطار وعشاء فاخر، ولا يعرف ذلّ مثل هذه العودة سوى من جربها. في المطعم طلبت المحمّر والمشمّر على حد تعبير إخواننا المصريين، ولأن الخباز يعرف وجه المتغدي كما يقول المثل اليمني فقد قرأوا وجهي بفراسة يحسدون عليها فصنفوني «مغترباً» يضاعف له الأجر، ويعطى منزله الضيف وليس الزبون، ما علينا، فهذا من باب كرم الضيافة وإن كان ينطبق عليه المثل عند الدفع «يا فرحتي باللحمة يا غُبني على التيس»، والتيس هنا هو «العدّي» وفقاً لأهل حضرموت أو «الزلط» في لهجة صنعاء وضواحيها، و«البيستين» كما يحلو لفناننا الكبير محمد مرشد ناجي أن يطلق التسمية على أي مبلغ من المال ولو تجاوز المليون، المهم طلع العشاء الشعبي أغلى من فنادق النجوم الخمسة في دبي، ولا عزاء لمن لا يبايع قبل الأكل، لأن الذي أوله شرط آخره نور.

هذا كله كوم وما حدث معي أثناء الأكل كوم آخر، فقد هبط على طاولتي شاب لا أظنه تجاوز الخامسة عشرة من عمره وبكل ثقة وبوجه ضاحك خاطبني بصوت رائق غير متلجلج «عشاء يا عمي» قلت له: «تفضل»، فسحب صحن اللحم الحنيد من جانبي الى جانبه وهات يا سلخ، وأنا أتفرج، قلت له: يا ابني «زكّع» خبز وخصار، قال: بعدين.. بعدين، قالها كأنني غير موجود ولست صاحب الأكل الذي أصبح متفرجاً، وأثناء القطع والبلع حدثني عن غلاء الطحين وعدم وجود عمل، ووجه شتيمة إلى رجل عجوز متمنطق بجنبيته وعمامته وعصا الشيخوخة إلى جانبه مشيراً إلى أنه يقبض راتباً دون عمل.. الخلاصة أن هذا الشاب الطفيلي برى الأضلاع كما تبرى الأقلام حتى أصبحت بين يديه بيضاء من غير سوء تصلح للعزف على العود بدون دوزنة، وقد تفرغ بعد ذلك للخبز والخصار والسحاوق فلم يترك شيئا، حيث تتبع الفتات وجمعه ثم سفّه سفاً، ثم نظر إلي ولم يكن في يدي سوى علبة «دايت بيبسي» أستعين به لرفع مستوى السكر في الدم عند الإفطار، فسألني ان كنت ساكملها أم أنني مستغن عنها، قررت في نفسي أن أصبها فوق رأسه ولكنني قلت: لا تجرح الحسنة يابن النقيب، فأعطيتها إياه، فعقب قائلاً: أصلك انته ما تعرف الجوع.

خرجت إلى ظاهر الساحة وكان الهواء منعشاً وجلست إلى طاولة لكتابة عمودي اليومي فجاءني طفل دون العاشرة سالني سؤالا أذهلني.. عمي انته أمك ماتت أو عادها حية؟ قلت: ماتت من زمان ألا ترى أنني شائب؟ قال: بس انا مات ابي وماتت أمي، وذلحين أنا جعّان.. قلت: يا لطيف الطف.. ادخل المطعم تعشى ونا باجي أحاسب.. كل عام وأنتم بخير.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى