البردوني وسلطة المثقف

> «الأيام» د.يحيى قاسم سهل:

>
د.يحيى قاسم سهل
د.يحيى قاسم سهل
المثقف أحد اثنين: إما أنه مثقف السلطة، وبالتالي هو المتحدث باسمها ومدافع عنها ولا يتجاوزها، بل يبرر سلوكياتها مرسخاً لثقافة التبرير والاستهلاك، ومثقف عضوي على وفق «جرامشي» مع المجتمع وقضاياه.. أي نحن إزاء مثقف السلطة ومثقف الجماهير.

والمثقف الحق في تقديري هو من يحرص على أن تكون هناك مسافة بينه وبين السلطة السياسية لتكون رؤيته أكثر وضوحاً وأبعد عن الانحياز سواء أكان انحيازاً للسلطة أو لمصلحة ذاتية أو انحيازاً عقائدياً.. الخ.

والمشكلة الحقيقية التي يواجهها المثقف في العالم العربي أنه تاريخياً وهو موظف لدى السلطة أسير لها، ويطلب منه أن يخلق هذه المسافة الفاصلة لتؤدي الثقافة دورها الحقيقي، وهو الريادة والتوجيه والتنوير.. حتى يستطيع تقديم رؤيته للواقع واحتمالات المستقبل والحوار الحر وصولاً إلى رؤية مشتركة حول طبيعة ومقتضيات التحرك الاجتماعي.

هذا، والمؤسف أن المثقف الجاد جرى ويجري تهميشه على مدى عقود من السنوات، والكثيرون من هذا الصنف استسلموا لهذا التهميش واقتنعوا بأن (ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن) ورضوا من الغنيمة بالإياب.

وفي هكذا معادلة لا يجد المثقف الحقيقي أي دور يقوم به سوى أن يعتكف بعيداً لأن الواقع يقول إنه لا مكان للثقافة في عالم اليوم سوى الهامش. أما المتن فتحتله قوى لا يهمها من الثقافة سوى تلك الأبواق القادرة على رفع صوتها بالتعبير والتبرير والتزوير، هؤلاء هم أبطال المشهد في وسائل الإعلام. وضمن هذا المشهد نبحث عن مثقف يرفع الصوت عالياً، ليرفع عنا أكوام الإحباط والقهر.

إن الاعتكاف والاعتزال قادا المثقف إلى موقع الهامش الذي هو فيه وبقدر ما لعب السياسي دوراً في قمع الدور الثقافي الرائد وتهميشه فقد لعب المثقف دوراً في قبول القمع والتهميش إلا عبدالله البردوني بقي صوتاً هادراً مجلجلاً رافضاً الخنوع ومؤمناً بدوره الطليعي كمثقف، ولم تمد الأرض من تحته ولو قيد أنملة وظل ضميراً حقيقياً لشعبه ومبشراً بالمستقبل.

أفقنا على فجر يوم صبي

فيا صحوات المنى أطربي

أتدرين يا شمس ماذا جرى

سكبنا الدجى صبحنا المختبي

وكانت السلطة عند البردوني سلطة، بمعنى أن السلطة ممثلة للراهن، وهي بذلك إما تتحرك ببطء إلى الأمام وإما تنزع الحفاظ على امتيازاتها وتبقى جامدة في مكانها، في حين أن المثقف المبدع والمفكر الطليعي لا يملك سوى التحرك بسرعة باتجاه الوعد الذي يمثله.. لذا كان البردوني دائماً في صدام مع السلطة، وأبقى علاقته بالسلطة بشروطه هو أي: الندية والنقدية.

ولتعذر تحقيق هذين الشرطين اللذين وضعهما البردوني كان عليه أن يجابه وعود السلطة ووعيدها في آن وأن ينحاز للحقيقة.

ولعل أفضل من صور العلاقة بين المثقف والسلطة هو الشاعر الروسي «جوزيف برودسكي» الذي عد (العداء بين المبدع وبين السلطة هو عداء أصلي لأنه عداء بين ممثلي المؤقت والعابر وبين ممثلي الأبدي والدائم. وحقد السلطة على المثقفين هو حقد المؤقت على الأبدي، وحين يتنازل المثقف عن دوره فإنه يخون جوهره وحقيقة وجوده).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى