أ.د. عبدالوهاب راوح رئيس جامعة عدن في ندوة علمية عن (الثوابت والمرجعيات : مقاربة في الرؤية والمفهوم - مثال: الحرية) بمنتدى «الأيام»:الحرية هي المرجعية لكل شيء والديمقراطية آلية تنفيذية (1)

> عدن «الأيام» خاص:

> عقدت مساء أمس الاربعاء بمنتدى «الأيام» في محافظة عدن ندوة استضيف فيها أ.د. عبدالوهاب راوح، رئيس جامعة عدن، ألقى خلالها محاضرة علمية متميزة عن (الثوابت والمرجعيات: مقاربة في الرؤية والمفهوم - مثال: الحرية).

وافتتحت الندوة بكلمة للزميل نجيب يابلي رحب في مستهلها برئيس جامعة عدن أ.د. عبدالوهاب راوح باسم الاستاذين هشام وتمام باشراحيل ورواد منتدى «الأيام» وقرائها المباشرين وعبر موقعها على شبكة الانترنت.

ثم استعرض ورقة تعريفية موجزة عن أ.د. عبدالوهاب راوح، رئيس جامعة عدن، جاء فيها: «من هو د. عبدالوهاب راوح؟

- من مواليد صبر، تعز عام 1952م، حصل على ليسانس آداب بامتياز من جامعة صنعاء عام 1977م ثم درجة الماجستير من جامعة عين شمس في الدراسات اللغوية والادبية عام 1982م ثم الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1986م. حصل على لقب أستاذ مشارك بكلية الآداب بجامعة صنعاء عام 1993م.

المهام التي تولاها:

معيد في قسم اللغة العربية، أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة صنعاء، وكيلا لكيلة الآداب لفترتين ثم وكيلا لعمادة الدراسات العليا والبحث العلمي، وزيرا للشباب والرياضة، وزيرا للخدمة المدنية، وزيرا للتعليم العالي، رئيسا لجامعة عدن، وهو متزوج وله ولدان.

د. عبدالوهاب راوح ومجلة «الثوابت»:

صدر العدد الأول من مجلة «الثواتب» الفصلية (يناير/ مارس 1993م) كان رئيس تحريرها عند الاصدار د. أحمد علي البشاري، رحمه الله ومدير تحريرها: د. عبدالوهاب راوح، الذي قدم في ذلك العدد بحثا موسوما: في الثوابت والمرجعيات/ مقارنة في الرؤية والمفهوم/ مثال: الحرية. ويقع البحث في (11) صفحة.

ان الانطباع الاولي الذي سيخرج به القارئ من أية مناولة للدكتور راوح بأنه لا يتناول الامور بل يفلسفها، ذلك انه لا يتناول موضوعاته كمتخصص في اللغة العربية، بل كمتخصص او قل إنه صاحب قراءات في الفلسفة او علم الاجتماع او الفكر السياسي.

جاء في تناوله ان الثوابت من جهة والاصول والمبادئ والاسس ليست وجهين لعملة واحدة، لأن المعادل الموضوعي للثوابت في الحقل المفهومي هو المتحول/ المتغير، لأن المتغير بحسب تعريف «المعجم الفلسفي» للمجمع اللغوي بالقاهرة هو «مصطلح رياضي اساسا ويراد به الكم الذي يمكن ان يتخذ قيما مختلفة (2) هو حد غير معين، قابل لأن تحل محله على التبادل حدود معينة مختلفة هي قيمته». وهكذا نجد الحركية وفقا للمعجم المذكور انها «نزعة ترفض الثبات وترى ان الاشياء في تغير وحركة مستمرة وأوضح مثل لها قديماً فلسفة هرقليطس وهي نزعة سائدة في التفكير المعاصر». أما المتحرك فهو «ما يمكن ان ينقل من مكان إلى آخر، فربط ارسطو الحركة بالتغير، وكل متحرك متغير». لذلك، فإن الثوابت في مناولة الدكتور راوح قانون / قوانين المتغيرات والمرجعيات تمثل قانون / قوانين الثتوابت، إذن فنحن أمام سريان الحركة في شرايين الدوائر الثلاث اختزلت في هذه المعادلة الموضوعية : تحولات محكومة بثوابت وثوابت محكومة بمرجعيات.

اذا سرت الحركة بمعزل عن تلك المعادلة الموضوعية سادها الاضطراب وتخضع لتوصيف الفوضىANARCHY وهي بتعريف «المعجم الفلسفي»: «اختلال في أداء الوظائف العضوية او الاجتماعية لفقد التوجيه والرياسة او تعارض الميول والرغبات او نقص التنظيم».

المرجعية في تناول الدكتور راوح هي الحقيقة العامة المرتبطة بالإنسان، وضرب مثلاً بالحرية وهي حاجة/ قيمة، وتاريخ الحرية بحسب د. راوح هي في الحقيقة تعامل الإنسان معها، والحرية استنادا إلى «موسوعة الجيب الاشتراكية» التي أعدها مفكرون مصريون بارزون ونشرتها مجلة «الهلال» (ديسمبر 1965- فبراير 1966) هي «الوجود نفسه»، و«لأن الموجود لا يتحدد ولا يتأكد إلا بالوجود نفسه، فقد أشار «كانت» أن الحرية هي قانون العقل ، وهي ليست حرية اللامبالاة التي وصفها ديكارت بأنها أدنى أنواع الحرية (راجع مجلة «الهلال» يناير 1966).

ثنائية العروبة/ الوحدة في مناولة الدكتور راوح أن الأولى مرجعية والثانية آلية، «فكلنا عروبيون ولسنا كلنا وحدويين»، وهي ليست قاعدة حتى وإن كانت قاعدة فإنها تخضع للاستثناء، فقد لا نكون كلنا عروبيين وقد لا نكون مسلمين سنة، بل وقد لا نكون كلنا مسلمين بشكل عام، ذلك أن هناك رؤية مغايرة للمفكر السعودي البارز الدكتور تركي الحمد مفادها: ليس شعار الديمقراطية حجر الفلاسفة او الوصفة السحرية التي يمكن أن تحل المشكلة كلها دفعة واحدة، فالديمقراطية قبل أن تكون انتخابات وحريات عامة وحقوقا أساسية هي حالة ذهنية وموقف فلسفي معين من الفرد والمجتمع قوامها الاساسي والضروري «التسامح» الذي يعتبر المقدمة الاساسية لشرعية التعددية في اطار المجتمع الواحد (مجلة «الشروق» الاماراتية - 16 أبريل 1992م ص 4).

أترك للدكتور راوح تقديم موضوعه وللزملاء المشاركين تقديم مداخلاتهم لإغناء الموضوع».

< عقب ذلك تحدث أ.د. عبدالوهاب راوح رئيس جامعة عدن قائلا: «في بداية حديثي لي الشرف أن أكون اليوم في منتدى «الأيام» هذا المنتدى الذي يأتي ليأخذ مكانه المتميز في هذه المدينة المتميزة بالرعاية الكريمة ايضا من قبل الناشرين المتميزين الاستاذين هشام وتمام.

والحقيقة ان «الأيام» تمثل منبرا حرا مسئولا وتمثل راعية للكلمة الحرة والكلمة الوطنية، وهي موضع احترام وتقدير القراء جميعا وتعد رسالتها هي الرسالة الأكثر انتشارا والأكثر تأثيرا وهذا ليس موضع خلاف.

أحس بسعادة بالغة ايضا ان يكون في هذا المنتدى هذه النخبة المتميزة من أخواني وزملائي المنتمين إلى رحم الكلمة ورحم المعرفة ومن أخواني ايضا وزملائي في الجامعة، وأقدم شكري وتقديري إلى الأخ الاستاذ نجيب يابلي وهو رجل محترف قراءة وأشكره على الجلباب الواسع الذي ألبسني إياه وأرجو ان أكون عند حسن ظنه وحسن ظن الجميع فكل ما في الأمر أننا جميعا نسعى الى ان نقرأ ولكل منا جهده في هذا الجانب.

في رمضان كنت في لقاء مع الأخ نجيب وقال لي قرأت لك موضوعاً في الثوابت عنوانه (في الثوابت والمرجعيات) وهذا الموضوع كتبته عام 93م بمناسبة العدد الأول من مجلة الثوابت التي شرفت يومها أنا والأخ المرحوم الاستاذ د. أحمد البشاري بتوليها، فبمناسبة كلمة الثوابت دارت في ذهني كلمتان كلمة الثوابت وكلمة المرجعيات ولعلكم تلاحظون ان كلمتي الثوابت والمرجعيات انتشرتا بقوة في العشرين السنة الأخيرة خاصة كلمة المرجعيات فقلت ان الكلمة حينما نتعامل معها هي واحدة من اثنتين لدينا كلمة تفسرها كلمة وهذه مهمة القواميس فالقواميس تعرف اللغة باللغة والقاموس يعرف الكلمات ولكن الموسوعة لا تعرف كلمات بل تعرف أشياء فالكلمة في القاموس غيرها في الموسوعة والفارق بين الموسوعة والقاموس ان القاموس يعرف الكلمات والموسوعات تعرف الاشياء فإذا قلنا حديث كلمة حديث معناه الحديث اليومي فهذا معنى يفسره القاموس ولكن حديث بمعنى الحديث النبوي الشريف كلمة حديث هنا مصطلح تعرفه الموسوعة فالحديث بالمعنى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام هذا مصطلح والحديث بالمعنى اللغوي حديث عام إذن إذا جئنا الى كلمة الثوابت وكلمة المرجعيات وهنا أقدم سؤالا للأخوة ليشاركونا في المقال الذي كتبته في فترة معينة هل كلمة الثوابت وكلمة المرجعيات نستمدهما من القواميس أم من الموسوعات؟».

وانطلاقا من ذلك السؤال الذي طرحه أ.د. عبدالوهاب راوح، رئيس جامعة عدن، ابتدأ محاضرته الضافية التي جاء فيها: «كثير من الكلمات تظل خاملة في قاع المعجم، كلمة من آلاف الكلمات كآلاف الكلمات. ثم تأتي فترة زمنية تتضافر فيها عوامل ثقافية، فكرية، سياسية.. مختلفة، لتصبح تلك الكلمة مصطلحاً يشار به إلى مجموع العلاقات القائمة بين مكونات مضمونه.

وبقدر ما يرجى من ذلك المصطلح يتحدد مدى شموله وشيوعه، فتتشرف الاقلام بتحريره، والمهتمون ،صادقين ومزايدين، باستعماله، والتمسح بأطرافه.

ومن هذه الكلمات/ المصطلحات التي علت سطح معجم اليوم مصطلحا: الثوابت والمرجعيات، فقد شاع استعمال هاتين المفردتين في الآونة الاخيرة، وغدتا من أشهر المفردات في متن اللغة السياسية والثقافية والفكرية. ولاشك أن شيوع مفردات معينة في فترات ثقافية معينة، يجعل من تلك المفردات (علامات) دالة على طبيعة المشكل المعرفي فترة سلطانها.

ويلاحظ أن هناك تداخلاً مفهومياً بين كلمات:(الأصول، الأسس، المبادئ، الثوابت). ويمكن فض هذا الاشكال المفهومي بأن (الثوابت) تختلف عن تلك من حيث إنها تدخل في علاقات مع (المتغيرات/ المتحولات) لا مع (الفروع، الثانويات، التفصيلات، على التوالي). حقيقة أن ثمة تسربا دلالياً على صعيد الاستخدام، إذ من المعروف أن كل متكلم لغة لا يتلقى بالضرورة مذكرة تفسيرية لكل كلمة يختزنها في معجمه الذهني، غير أن الاستعمال العلمي/ المسئول لا يركن في تحديد المفردات إلى تدخلات السياق.

يدفع إلى هذه المقاربة الأولية حول سؤال (الثوابت) و(المرجعيات) أن حاجتنا اليوم إلى هاتين الكلمتين تفوق كثيراً معرفتنا بهما؛ لا المعرفة التي تتوسل جانب المعجم، وإنما المعرفة الاصطلاحية، بأن نتواضع على مضمون، لا نجده في المعجم وإنما نضيفه إليه. بما يجعل من تعاملنا مع تلك المفردة على أنها حامل موضوعي يقترب من الوفاء بتأمين حاجتنا إليها، مراعين المقولة القيمة لرائد علم اللغة في القرن العشرين (فرديناند دي سوسير) حين نصحنا، ونحن نعرف، بأن «نعرف الأشياء لا الكلمات» بمعنى، أن ننطلق من الإشياء إلى الكلمات، لا العكس.

وفي ذلك يرى المفكر المغربي عبدالله العروي أن «العالم، قبل أن يصف، يحدد رموزاً. والرموز مسبقات لا يستغنى عنها أحد.. والطريق ةالمعقولة العلمية الموضوعية هي البدء بالوعي بتلك المسبقات، أي بنقد الكلمات والمفاهيم التي هي وسيلة الوصف. يجب أن يسبق النقد الوصف لكي نعقل ما نصف وما نقول»(1).

تبين مما تقدم أن (الثوابت) ليست دريفاً معجمياً لكلمات :(الأصول، المبادئ، الأسس) لكون المقابل الموضوعي لها في الحقل المفهومي هو (المتحول، المتغير).

فالثوابت تمثل قانون/قوانين المتغيرات، والمرجعيات تمثل قانون/قوانين الثوابت. بذلك تنتظم الحركة الفاعلة ضمن هذه الدوائر الثلاث: (تحولات محكومة بثوابت، وثوابت محكومة بمرجعيات).

1- وحيث كانت الحركة غير موصولة بثابت، فنحن أمام حركة (مائية الاتجاه) حركة تفتقر إلى قانون انتظامها الداخلي، بما يوجهها وجهة تخدم وظيفة. أي نحن أمام (فوضى) والفوضى حركة لا أقدام لها ولا وجهة. إنها النقيض المقابل للحركة المحكومة بثوابت ومرجعيات. وإذا صدق بعض المفكرين حين قال: «إن المتاهة لا تعدم تنظيماً» فكذلك الحال مع الفوضى، كالمتاهة لا تعدم تنظيماً . ولكن أي تنظيم؟

إن الحركة المرتبطة بثابت ومرجعية علمية تنمو وتتوالد، متخذة في مسارها خطاً وجهته أمامية. فهي في علاقة متوازنة متوازية مع الزمن وهو شرط منها. على أن الحركة الفاقدة الاتجاه تنمو، ولكن في نقطتها، حيث لا مسار لها ولا وجهة، وعلاقتها بالزمن علاقة مختلة لكونها تعمل بمعزل عنه، وليس شرطاً منها. فالفوضى، اختصاراً، هي اصطراع عناصر الحركة مع بعضها بما لا يخدم نظاماً هو، بدوره، يخدم وظيفة.

2- ذلك شأن الحركة مع ثوابتها حضوراً أو غياباً. أما شأن الثوابت مع مرجعياتها، فيتحدد بان الثوابت تستمد سلطتها من المرجعيات. والمرجعية هي التي لا ينال من طبيعتها الاختلاف، اذ من ثباتها تستمد الثواب ثباتها النسبي. أما من أين تستمد المرجعيات سلطتها، فسيأتي بيانه، ليكتفى بالإشارة هنا إلى أن الثوابت التي تفتقر إلى شرعية الاعتماد المرجعي، أو تتصادم، مبدئياً، أو إجرائياً، مع المرجعيات، تنتهي إلى (التجريبية) والفشل، تحت تأثير العوامل الداخلية المتولدة عن أزمة الأسس. يتضح ذلك من الاستعراض التاريخي لكثير من التجارب والمقولات الكبرى التي شهدتها المنطقة العربية في العصر الحديث.

3-أما من حيث علاقة الثابت بالأطراف المتعاقدة عليه محوراً ومصدراً لنشاطها المؤسسي.. فإن شرط شرعيته كثابت ومرجع عمل يتمثل في مدى كونه ممثلاً وحامياً لمصالح جميع الأطراف المتعاقدة عليه. فهو (قطب) المتغيرات التي تمثل هامش الاختلاف المشروع بينها، والذي يجعل منها أطرافا.

ومع فقدان هذا الشرط نحن أمام (قيد) لا أمام (ثابت)، إذ الفاصل بين قيود الحركة وثوابتها أن الثوابت تمثل مصالح جميع الأطراف المتعاطية معها، عكس القيود. إلى جانب أن الثوابت تمثل قوانين للحركة والعمل، والقيود عوائق وأغلال. وعادة، بل دائماً، ما تتم صياغة القيود من قبل الفئة المستفيدة منها. وقد تخلع عليها، دعائياً وتلطيفاً، مصطلح الثوابت، وما هي بثوابت.

4- وإذا أتينا إلى طبيعة العلاقة بين الثوابت (وموضوعها) أي مجالها، فالموضوعات شتى. ويتحدد الموضوع، نحوياً، بوقوعه محل المضاف إليه أو الصفة، كان نقول: ثوابت العمل الحزبي، ثوابت السياسة الاقتصادية في المرحلة القادمة، الثوابت الوطنية.. وفي هذه الحالة نلاحظ أن مجال الحركة /الموضوع يختلف سعة وضيقاً.

وتباعاً لذلك يتحدد مدى الوعاء الزمني أو مدى عمر الثوابت: فثوابت المفاوضات تنتهي وظيفتها، وبالتالي، عمرها بانتها المفاوضات. وثوابت الكفاح المسلح ضد الاحتلال تنتهي مع التحرير. حيث يختفي جامع وحدة العمل، وتبرز التناقضات المضمرة بعد ذلك. ولكن إذا أتينا إلى ثوابت العمل الوطني، مثل «ثابت النظام الجمهوري، ثابت السيادة » نلاحظ أن عمرها دائم من ديمومة وظيفتها ، وذلك لارتباطها بمرجعية أكبر من مكانية: إنها مرجعية الحرية.

وقد يتسع (الموضوع) أفقياً على مستوى المكان، وبالتالي الأطراف المستفيدة منه كما في «ثوابت التعاون الإقليمي» حتى نصل إلى «ثوابت التعاون الدولي» كما في المواثيق الدولية. وهذه الخطوة المتقدمة، نسبياً، في مجال العلاقات الدولية مقارنة بما كان عليه الحال قبلها يطعن في صدقية تقدمها مأخذ «حق الفيتو» الذي أحال هذه الخطوة إلى مفارقة قانونية عجيبة: «أعترف لك بحق مقابل أن تعترف لي بحق نقض ممارستك لحقك حين يتعارض ومصلحتي». وإذا كان نفي النفي إثباتاً، كما يقول النحاة، فإن حق نقض الحق تعطيل للحق، بما يعني عمليا عدمه. فنحن، إذن، مع (قيد) لا مع (ثابت).

المرجعيات: خصائصها، سلطتها

1- خصائص المرجعيات

تبين مما تقدم أن الثوابت تمثل قانون الحركة، وأن المرجعيات تمثل قانون (الثوابت). ولكن من أين تستمد المرجعيات سلطتها؟

ما الذي يجعل من قيمة ما جهة منها تستمد الأفعال شرعيتها وصدقيتها، باختصار علميتها؟

- بداية تحسن الإشارة إلى أن المرجعية هي الحقيقة العامة المرتبطة بالإنسان من حيث هو إنسان. وهذه الحقيقة العامة تتجسد وتتحقق من خلال (نوع) التعاطي الثقافي معها. فالمرجعية تمتاز بأن لها وجودها المستقل. وهو وجود لا يصل إليه الخلاف أو الاختلاف، ذلك الخلاف الذي يأخذ مكانه في «طرائق» التعتامل مع المرجعيات، لا مع المرجعيات ذاتها.

فإذا عرضنا ، مثلا ، لمرجعية، مثل مرجعية (الحرية) أو (مرجعية الثواب والعقاب)، نلاحظ أن هذه المرجعية لها كينونتها المستقلة. ويراد باستقلالها عدم ارتباطها بظرف زماني أو مكاني معين أو بجماعة معينة. إنها قيمة/حاجة فوق زماني/ مكاني/مجتمعي/ تاريخي. إنها لا تقع في التاريخ فهي خارجه. وما يقع منها في إطاره هو نمط التعامل معها، ذلك النمط المرتبط بمكان وزمان وأمة وتاريخ محدد. فتاريخ الحرية هو، في الحقيقة، تاريخ (تعامل) الإنسان معها ، أما الحرية من حيث كونها (حاجة) فلا تاريخ لها. إذ من المستحيل عقلاًأن يتحرر الإنسان من الحرية مستقبلاً، أو أن أمة فيما مضى كانت في غنى عنها.

- يترتب على جانب الاستقلال تمتع المرجعيات بمنطق داخلي يحدد نوع التعاطي العملي معها. ويتمثل هذا المنطق في أن التعامل (المجدي) مع المرجعيات يجب أن يكون وفق منطقها هي، لا وفق رغباتنا وأهوائنا. نحن أمام جبرية منطقية لا تقل صرامة عن جبرية القوانين الطبيعية. فإذا كان تعاملنا مع قانون الجاذبية، بعد اكتشافه واكتشاف علاقته بالأجسام، هو امتداد لمنطقه، فإن الحرية أو (مبدأ الثواب والعقاب) يتمتع بنفس الحصانة الموضوعية. أي لا نستطيع أن ندخل الحرية في علاقات مع أطراف في الحياة الإنسانية تأبى إقامة علاقات معها بما يؤدي إلى منفعة. فالحرية هي التي تحدد نوع التعاطي معها ولسنا نحن. ومن اشتراطات الحرية ألا تأتي مشروطة. فموقعها هو موقع (الشرط/ المقدمة، لا موقع المشروط/ النتيجة)، وذلك مع كل طرف تدخل معه في علاقات، حتى ولو كان ذلك الطرف/ المعادل هو الإيمان بالله. إذ المبدأ : «من الحرية إلى الإيمان» الحرية المحررة من كل شوائب السيطرة أو الإكراه، والمتولد عن الاستجابة الداخلية تجاه البيان المقدم لخياري (الرشد والغي) {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}. إنها (جبرية الموقع: موقع المقدمة) حتى في ظل العلاقات الجدلية، تقتضي أن تكون محل (أ) لا محل (ب) وأن تكون المبادرة الأولى لها ، ولا مانع بعد ذلك من الاستجابة لمنطق الجدل .باختصار: إلا تكون مشروطة، كما تقدم. وموقعها بعد (من) لا بعد (إلى).

وتمثيلاً لذلك ننظر في علاقة (الحرية) بـ (القوة) في شعار لإحدى الصحف العربية حيث يقول: «حرية العرب في قوتهم». فنلاحظ أن منطق الشعار يجعل الحرية (نتيجة) للقوة (المقدمة/الشرط). وبتفحص هذا المنطق يتبين أنه قد تجيزه قواعد النحو، لا قواعد الواقع العلائقي بين ثنائية : حرية /قوة.

والمؤسف أن قواعد اللغة تكتفي بسلامة التركيب من الوجهة النحوية، ولا تشترط سلامة التركيب من الوجهة العقلية/المنطقية، أو الواقعية. وذلك عيب مزمن في اللغة، أو في تعامل الإنسان معها. حيث تحل السلامة النحوية، أحياناً، محل السلامة المنطقية، والمؤسف ثانياًُ أن هذا الاحلال «يمرر» وقد يعمر. رغم أنه ليس فيه من السلامة سوى سلامة الإعراب فقط. والمؤسف ثالثاً أن هذا المركب (النحوي) قد يتخذ مرجعية عمل، على ضوئه يتم إعداد برامج وإجراءات التنفيذ. وتسخر الإمكانات المادية والإعلامية لخدمته، حتى يتحول إلى نوع من السلطة المعرفية بأن يتردد العقل في إعادة النظر فيه، وخاصة إذا إسند بسلطة بوليسية. وأخيراً ينكشف الغطاء عن مركب لغوي يجيزه النحو ويرفضه العقل.

ذلك عيب من عيوب اللغة، أطلق عليه المفكر الإنجليزي فرنسيس بيكون (وهم السوق). وللتحرر من قبضته نادى بأن يتم التعامل مع الطبيعة مباشرة دون وسيط اللغة. ويوم تم ذلك قفز العلم قفزاته المعروفة مستخدماً الرمز والرقم ومقصياً الكلمة الكيفية: (مأوى الأسطورة) واستبدل بها الكلمة (الكمية) فاختفى الكيف والتقدير في لغة العلوم، وبقي مسيطراً على بعض المعارف الإنسانية، وبتعبير تقريبي: لقد اختفت اللغة الكيفية في كليات: الطب والصيدلة والمختبرات والزراعة والهندسة والعلوم الطبيعية ولم تبق إلا في كلية الآداب.

ولعل المأوى الأخير لهذه اللغة المطاردة يتمثل في حقل الإيدولوجيا، حيث اللغة تنصب نفسها هناك بديلاً عن الفكر، الفعل، المدلول. وحيث اللغة هناك هي التي تستعملنا وتقول بواسطتنا لا العكس على حد تعبير ميشيل فوكو.

أعتذر عن هذا الاستطراد الذي أراه ضرورة للتنبيه من خطورة التعامل مع الأشياء من مدخل اللغة.

فإذا تعاملنا مع هذه الثنائية (حرية/قوة) وفق ما تشاء هي سنرى أن مشيئتها، منطقها يقول: «قوة العرب في حريتهم» وأن منطق «حرية العرب في قوتهم» لا يستوي إلا حيث يستوي منطق وضع العربة أمام الحصان.

فإذا كانت العلاقة بين (عربة/حصان) مستقلة عنا، فكذلك الحال مع العلاقة القائمة بين (حرية/قوة) علاقة مستقلة عنا أيضاً. حيث لا يقبل الحصان والحرية غير موقع (المقدمة) إلا اذا أردنا حركة ارتدادية للخلف، أو السير في نفس المحل. فالقوة لا تفضي إلى الحرية وإنما تفضي إلى دكتاتورية القوة. حقيقة أن القوة تحمي الحرية ولكنها لا تولدها. وإذا كان يشفع لهذا الشعار أنه يعبر عن مضاعفات أزمة التفاوت التكنولوجي بين المعسرك العربي- الغربي، بما فيه إسرائيل، بما إدى إلى احتلال الأرض وتهجير أبنائها فنحن إذن أمام (حاجة/قوة) نتوسل بها في الوصول إلى الحرية.

فهذا المنطق، رغم سلامة قشرته، وهي الجانب الوحيد السليم فيه يتكشف تهافته الداخلي حين ننظر إليه من الزاويتين الآتيتين:

1- يقوم هذا المنطق على اعتماد آخر سلاح استعان به الآخر فجعل منه أول سلاح سيستعين به ضد الآخر . أي يريد أن ينطلق من القوة (بعنصرها العسكري) ابتداء إلى القوة (بباقي مكوناتها ومظاهرها: الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية). على حين أن البعد العسكري في قوة الآخر هو بعد (لاحق) فهو ثمرة منسجمة وطبيعية لمقدمات اجتماعية، ثقافية ، سياسية كافح المجتمع الأوربي من أجلها كثيراً وضحى كثيراً. فلا يمكن، واقعياً وعملياً وعلمياً، أن نبني مشروعاً تحررياً بناء على قياس خاطئ. خطؤه أن نجعل من (مكتسبات/نتائج) الآخرين، موضوع القياس، مقدمات وشروطاً لمشروعنا فنبني من فوق إلى تحت.

2- إن قوة الشعب لا يدخل في (مكوناتها) عنصر القوة بوجهها العسكري، بأي حال من الأحوال. فوظيفتها حمايته من الآخر، وإسناد إرادته تجاه الآخر. ولكنها ليست (مفصلا، ولا عضوا في جسم مضمون قوته) فالشعب السوفيتي ضعيف ومعه القوة الأولى في العالم. وقد ثأر لضعفه من قوته ثأراً كان غريباً في العالم. فالبداية يجب أن تكون اجتماعية لا عسكرية. والتحرر قبل التحرير.

-نفس الحال في علاقة (الحرية) مع (الوحدة، الاشتراكية) في شعار بعض الخطابات القومية.

إذ إن النظرة المتجهة نحو استكشاف نوع العلاقات القائمة بين أضلاع هذا المثلت تؤكد أنها تفتقر إلى الانتظام الذي يجعل من هذه المفردات، مجتمعة، نظاما. فهذه المفردات جمعت مع بعضها، دون إذن منها، إن صح التعبير. فما بينها من جامع لا يختلف عما بين الكلمات (مفتاح، قلم، ماء).

وهناك خاصية ثالثة تتسم بها المرجعيات، وهي أنها (جهة لا ينالها الاختلاف) حيث تمثل نسقاً متفقاً عليه لدى جميع الأطراف المتفاعلة معه. ويتولد هذا الاتفاق من كون تلك المرجعية تمتلك كينونتها المستقلة عن مجموع المنتفعين بها، سواء أكانت مرجعية عامة كمرجعية( الثواب والعقاب) و(العدل) أم مرجعية (ثقافية)، كمرجعية (العروبة) في إطار الثقافة العربية.

غير أن نوع التعاطي مع هذه المرجعيات هو ما يمثل دائرة الاختلاف أو الخلاف. فالعروبة، مثلاً، مرجعية ليست من تأليف هيئة بعينها أو مرحلة تاريخية بعينها. فهي قضية اشتركت في صياغتها الأمة لكونها عنصراً تأليفياً في بناء تلك الأمة بما يجعل منها (هي) لا غيرها . فهي بذلك تمتلك وجودها المستقل. ويأتي تحققها من خلال الأمة المتمثلة بها.. ودور الفرد فيها دور اكتسابي وراثي تمثلي. فهي لذلك لا تمثل جهة خلافية. غير أن الثوابت القائمة عليها أو التي تستمد شرعيتها /سلطتها منها قد تصاغ في فترة معينة لمواجهة ظروف معينة ومن قبل هيئة، فترة بعينها. وقد تدخل في دائرة خلافية مع فئة، أطراف أخرى. بمعنى أن الثوابت المستمدة من مرجعية العروبة قد يتبناها قوم دون آخرين، وذلك لاختلاف الأطراف في (نوع) التعاطي مع هذه المرجعية .فكلنا عروبيون ولسنا كلنا وحدويين.

وهنا يجب أن نفصل بين العروبة ممثلة بوعي أهلها بها (جانب الموضوع) فوعي العربي بعروبته لا ينال منه اختلاف القراءات والتفسيرات.

انطلاقاً من أن الموضوع ممارسا هو غيره مادةً للبحث. فالعروبة ممارسةً هي فعل كل العرب، وموضوعاً هي فعل الباحثين فقط، وقد يكونون غير عرب. فضلا عن أن مرجعية (الخطاب) تقوم على مصادر معرفية وآليات منهجية هي بدورها متطورة باستمرار، ولذلك غالباً ما يأتي التقرير/الخطاب محيلاً إلى مؤلفه/عصره، لا إلى موضوعه. فكاتبه، أو عصره هو مقرؤوه لا موضوعه، في بعض الأحيان.

يتضح ذلك من خلال ثنائية (العروبة/الوحدة) فالعروبة مرجعية، والوحدة آلية، ثابت يستند إلى هذه المرجعية. ولكونها آلية فإنها مجال يسمح بالاختلاف أو الخلاف. إذ لا يصادر خطاب الوحدة آليات أخرى يمكن أن يتحقق بها الخطاب القومي العروبي، الذي ليس بالضرورة أن يتجلى من خلال (وحدة). فقد تكون الوحدة من أكثر الآليات إغراء وجاذبية على صعيد الخطاب. على أنها من أفقر الآليات منظوراً إليها بمعيار العملية والإمكان.

2- سلطة المرجعيات

تستمد المرجعيات سلطتها من (العلم) ممثلاً بمناهجه ومكتسباته التي حققها حتى الآن. وعلاقة العلم بالمرجعيات هي علاقة اكتشاف لا علاقة اختراع. وهذا يعني أن المرجعيات تعمل حتى في غياب الوعي بها. وما يتم بعد اكتشافها كمقررة علمية هو تفعيلها، كما يتم تفعيل أي قانون طبيعي. فالقومية حقيقة اجتماعية فاعلة قبل الوعي بها ،علمياً، في العصور الحديثة. و«مبدأ الثواب والعقاب» فاعل في الحياة الاجتماعية قبل تقنين التعامل معه والإفادة منه، من قبل المخططين والمشرعين. وكثير من موضوعات العلوم محددة سلفاً، ومن محددات (علمية) العلم اكتشافُه موضوعَه موضوعياً. فتأتي هذه العلوم حديثة بمناهجها لا بموضوعاتها.

والمؤسف أن اكتشافات العلم للسنن الكونية في الحياة الإنسانية دون اكتشافاته في المجال الطبيعي، لأسباب منها ما يرجع إلى طبيعة الموضوع، ومنها ما يرجع إلى طبيعة الإنسان ذاته، حيث تحمسه نحو معرفة الطبيعة يفوق تحمسه نحو معرفة قوانين حياته فرداً أو جماعة. بل قد يتعمد التجهيل أحيانا بقصد وسوء نية، ويستخدم «الفكر» آلية لقتل الفكر ،حماية لبقاء امتيازات شخصية، فئوية، طبقية.. وهو لا يعمل ذلك مع موضوعات الطبيعة، حيث لا إيدولوجيا في الفيزياء أو الرياضيات. فالمرجعية، عاريةً من العلمية، عائق معرفي ووهم كبير، يستمد سلطته من القدم أو الشيوع أو منهما معا، لا من العلم .مما يعني أخيرا ًواختصاراً أننا في نشاطنا وتعاملنا مع بعضنا أو مع الطبيعة نستند إما إلى علم أو لا علم. ولا وسط بين ذلك.

المرجعية والثقافة

بما أن المرجعية تستمد سلطتها من علاقتها بقانون، أو سنة عامة مرتبطة بالإنسان من حيث هو إنسان فإنها تصبح إحدى السنن الكونية في الحياة الإنسانية. وعليه، لا يتم التعامل معها إلا وفق ما يقتضيه منطقها وموقعها، شأن التعامل مع قانون طبيعي. مع فارق: أن قانوناً مجاله الإنسان، أو الحياة الإنسانية، لا تتأتى فاعليته بما يخدم الإنسان إلا حيث تعاون معه الإنسان أو اهتدى إليه. فكلاهما مفتقر إلى الآخر، شأنهما في ذلك، شان حبة القمح تحتاج إلى الإنسان لتبقى بقدر ما يحتاج إليها ليبقى . ذلك هو مفرق الطريق، إذ لا تستأذَن زهرة الفول في أداء وظيفتها فهي (مفعول) دائماً لفعل قانونها، على أن الإنسان، مع قوانين حياته، مفعول وفاعل معاً. وتلك ميزته ومشكلته معا أيضاً.

وترتيباً على ما تقدم فإن هذه المرجعيات لا تستمد سلطتها من (الثقافة) وإنما تدخل معها في علاقات. علاقات ما هو عام بما هو خاص. ذلك أن الثقافات ترتبط بالمجتمعات، والمرجعيات ترتبط بالإنسان، فمكانها خارج إطار الثقافات وعلاقاتها بالثقافات هي علاقات (تقاطع). وفي منطقة التقاطع بين خطي: العام الخاص (=المرجعية - الثقافية) يتحدد (نوع) العلاقة بما يؤدي إلى تفعيل أو تمظهر المبدأ العام وفق ما هو خاص. فالثقافة توجه المرجعية الوجهة التي ترضاها فتأخذ بذلك مظهرها وتحققها. هذه الوجهة/ التحويل قد تستمر فترة من الزمان في منطقتها ، ثم تختفي لتحل محلها منظومة ثقافية أخرى في الزمان والخصوصية في المكان. بما يعني أن المرجعية في طبيعتها:

-لا تتعدد ولا تتنوع فهي الوحدة وراء التعدد (الثقافات) حيث ترتدي مع كل ثقافة رداء ، هو رداء تلك الثقافة.

-خالدة، حيث لا يقبل العقل إمكان مجيء يوم يقال فيه: كان في قديم الزمان مبدأ يقال له (الحرية، أو العدل...) أو قانون يقال له(الثواب والعقاب). فالمرجعية، في طبيعتها، لا تبلى ولا تستهلك، وإنما يعرض البلى والاستهلاك لتمثلاتها من فترة ثقافية إلى أخرى تالية لها.

-إن الثقافة، لا المرجعية ، هي التي تحدد نوع العلاقة القائمة بينهما، وذلك بما يخدم وظيفة الثقافة وحاجاتها. وعلى سبيل المثال، بغرض التوضيح، نلاحظ العلاقة بين (العلم) و(الثقافة). فالثقافة البابلية، أو الفرعونية تعاطت مع(العلم) وهو عام، غير تعاطي الثقافة اليونانية، أو العربية، أو الصينية.. حيث تم «توجيه» هذا النشاط العقلي - الروحي الثاوي في كل الثقافات وجهات وظيفية من ثقافة إلى أخرى. فالوظيفة الثقافية تكيف هذا النشاط العام بما يحمل لونها ويؤمن حاجاتها، فيأتي متجسداً بمنجزات ومعطيات عقلية/ مادية لها خصوصياتها من ثقافة إلى أخرى. تلك الخصوصية التي جاءت وليد المزاوجة بين ما هو عام (العلم مثلاُ) وما هو خاص (الثقافة). وكان الناتج أن للعرب علومهم وللهنود علومهم وللرومان علومهم وللصينيين علومهم.. كما أشار الجاحظ.

ففي هذه العلوم نلمس حقيقتين: حقيقة أنها جميعها (علم) أيا ما تيسر لها من خصائصه ومقوماته. وحقيقة أنها ذات بعد نوعي، منهجية أو موضوعاً، حيث فاق هؤلاء بـ (موضوع معلوم) دون آخر والعكس صحيح. فالعلم من حيث كونه نشاطاً إنسانياً عاماً أوجد هذه المكتسبات والثقافة من حيث كونها محلية نوعت هذه المكتسبات وميزتها اي ثقفتها فجاءت هذه المعارف (الهندية، الصينية، العربية، الرومانية..) أبناء شرعيين لتزاوج (العلم: المرتبط بنوع الإنسان) و(الثقافة: المرتبطة بناسها). وبقدر ما تنهض البنية الثقافية في «تثويب» المرجعية بثوبها تكون المحلية . والعكس صحيح، أي بقدر ما يتمكن العلم من ثتويب الثقافة بثوبه ، وهو عام، يكون عموم مقولاته.

وبالنظر إلى تاريخ العلاقة بين العلم والثقافة يلاحظ أن العلم عانى كثيراًُ من احتواء الثقافة ولم يجد حريته ومتنفسه إلا يوم اتجهت الجهود نحو الانتصار لمنطقه هو، لا لمنطق الثقافات، وذلك حين تم فض الاشتباك بين ما هو علم وما هو ثقافة، على صعيد المفهوم والممارسة، وانتقلت الثقافة من موقع الطرف المتكافئ مع العلم إلى موضوع من موضوعاته ، من آلية رؤية إلى موضوع رؤية، يقرؤها العلم كما يقرأ أي شيء من أشيائه في الطبيعة والحياة.

بهذه النقلة الانقلابية: نقلة انقلاب الثقافة من آلية وصف وتفسير وقراءة إلى (موضوع مقروء) تحقق للعلم جانب كبير من استقلاله بما يميزه عن (اللاعلم). ومع ذلك لايزال للثقافة اختراقات تشوب الرؤية العلمية، وتحتم عادتها دون وعي، وهي موضع تعقب مستمر من قبل منهجية فلسفة العلم، وتطور المقولات الميثودولوجية. ومن الجدير ذكره أن الثقافة، الشريك التاريخي للعلم في تصميم صياغة التقارير والأحكام على الموضوعات لم تتحول إلى موضوع إلا في مرحلة متأخرة، ومايزال العلم جاهداً في سعيه نحو الانفراد بصياغة القرار . ويوم أصبحت الثقافة تقرأ بالعلم تكشف عالمها عن حقائق خطيرة ما كانت ميسرة يوم أن كانت الثقافة تقرأ بالثقافة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى