محمد علي لقمان .. الرؤية التنويرية وتمثلاتها في النقد والأدب

> عبدالرحمن عبدالخالق:

> تعقد في رحاب جامعة عدن مابين 13-15 مايو الحالي، الندوة العلمية الخاصة بالمناضل محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في اليمن .. وقد تداعى العشرات من الباحثين والدارسين اليمنيين والعرب للمشاركة الفاعلة في هذه الندوة، مما يعكس المكانة الريادية الرفيعة التي يحتلها لقمان في النهضة الفكرية والأدبية الحديثة في اليمن، بل لاغرو إن قلناإأنه قد تجاوزها إلى الإطار العربي، مساهما بفعالية في الحراك الثقافي والأدبي.

وتقتضي الإشارة - من باب الإنصاف - إلى الجهود الطيبة والكبيرة التي بذلها الأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني، نائب رئيس جامعة عدن، في إقامة هذه الندوة، وعلى هذا المستوى العالي من التنظيم والإعداد. على أن الأمر لا يقتصر على تبني الفكرة - فكرة تنظيم الندوة - وإنجاحها، وإنما في العمل الجليل الذي قام به الدكتور الهمداني، المتمثل بجمع التراث الفكري والأدبي والصحفي لهذه الشخصية الاستثنائية في تاريخنا الحديث، ودراسته بعمق وموضوعية، ووضعه في متناول القراء والباحثين والمؤسسات العلمية.

تعد الورقة العلمية (محمد علي لقمان - الرؤية التنويرية وتمثلاتها في النقد والأدب) للأستاذ الدكتور علي حداد من بين الدراسات المتميزة المقدمة للندوة.

لقد وضعتني هذه الدراسة الغنية في مادتها والعميقة في مراميها أمام مهمة صعبة، إذ إنني أجد في تلخيصها أو عرضها قــــدرا من المجازفة. لكن لا مفر من ركوب الصعب.. في سبيل وضع القارئ أمام أبرز القضايا التي أثارتها هذه الدراسة.

وليكن لنا مع البدء وقفة، لما احتوته من إشارات مكثفة، لخصت نتاج التجربة الإنسانية والإبداعية لمحمد علي لقمان، إذ عد الباحث أن لقمان أنجز - في كل ما أعلنه وكتبه ودعا إليه - وعيا ثقافيا ناضجا وتجربة إنسانية متسعة وعميقة، وطَّن عليها شخصيته وقلمه، في طموح لا يُجارى للارتقاء بمجتمعه وبلاده المشدودين إلى كثير من أسباب التخلف ووقائعه التي كان لقمان يرفضها ويوفر جهده دائبا وحصيفا لتخطيها، والمناداة بما يمكن له أن يصنع واقعا مغايرا أفضل، وأكثر اقترابا مما تم للأمم والشعوب المتحضرة أن تحققه.

فكر التنوير العربي .. قراءة مستعادة: لقد آثر الدكتور علي حداد أن يبدأ بتقديم يكون أساسه قراءة مستعادة لفكر التنوير العربي، كمدخل موضوعي وعلمي لدراسته، خاصة وأنها تتصل بمحمد علي لقمان - الرؤية التنويرية وتمثلاتها في النقد والأدب، حيث أشار إلى أن لقاء العرب - في القرنين الماضيين - مع الآخر - الغرب - مثل صدمة حضارية أقلقت الوعي والحواس وتركتها نهبا لأسئلة لم يكن ليتاح للعربي أن يشتغل بها - بهذا العمق والانشداد لو لم تقع تلك المواجهة.. مشيرا إلى أن الأهم من بين تلك الأسئلة، هو ذلك المتعلق بأسباب تخلفنا عن الغرب ومنجزه الحضاري، والكيفيات التي يمكن لنا من خلالها أن نلحق به ونجاريه في إنجاز مماثل يشير إلينا . لقد تأسست على طبيعة الإجابة المقترحة - حسب الباحث - مواقف عدة حددها بثلاث اتجاهات أو إجابات.. مَّثل كل منها مسعى فكريا وممارسة معرفية وثقافية لها حدودها من حيثُ الرؤية ووسائل تمثلها.. نلخصها بالتالي :الأول: عودة العرب إلى تراثهم - كل تراثهم - بما يعني إحداث قطيعة مع الآخر وثقافته.

الثاني : ويمثل النقيض - تماما - للموقف الأول، أي أن أصحاب هذا الموقف ذهبوا إلى القول بوجوب الانضواء التام - ودون شروط - إلى أفق تلك الحضارة الوافدة مونها أرقى ما تحقق للبشرية في عصرنا الراهن .

الثالث: وهو ما يمكن أن يُطلق عليه الاتجاه الموضوعي.. فقد دعا أصحاب هذا الموقف إلى أفق من التوازن بين ما نتمسك به من تراثنا ونحييه ونتواصل مع قيمه، وما نستجلبه من حضارة الغرب ونجعله في بنية معرفية خاصة بنا نحن العرب .

وقد أفرد الدكتور علي حداد في مقدمته هذه حيزا واسعا لمسعى المثقفين المتنورين في البحث عن الوسائل والسبل التي تحقق للعرب مجالات اللحق بركب التطور الحضاري الحديث والارتقاء به.

محمد علي لقمان : مقومات الشخصية ووعي التنوير:

( 1 ) وضع الدكتور علي حداد، القارئ - تحت هذا العنوان - في الصورة من مدينة عدن، في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وتحديدا منذ العام 1839، باعتبار ذلك بداية التغلغل الاستعماري في المنطقة، وبالتالي انفتاح عدن على الغرب، بحكم السيطرة الاستعمارية الانجليزية، وما صارت تتلقاه من أجناس بشرية مختلفة، وثقافات متعددة، وما توافرت عليه من حركة تجارية، واتصال ثقافي مع العالم الخارجي، كونها ميناء مفتوحا على ما حولها، مشيرا إلى ما شهدته عدن من تطور على المستوى الثقافي والتعليمي مع العقد الثاني من القرن العشرين، وتأثير عودة أولى الدفعات من ( ليدز ببريطانيا ) عام 1925، وبالذات دورها الفاعل في إعادة النظر بمناهج التعليم السائد، والسعي إلى تعريبه، وكذا عودة بعض الدارسين في البلدان العربية : مصر والعراق ولبنان، الذين أمسوا أصواتا تدعو إلى التغيير والنهوض بواقع مدينتهم بعد أن أتيح لهم أن يطلعوا على ما توافرت عليه تلك البلدان التي زاروها أو درسوا فيها . وأشار الباحث إلى دور تلك النخبة الصالحة من الشباب في تأسيس النوادي الأدبية والإصلاحية في أكثر من مدينة، وعقد الندوات الفكرية وحلقات الدرس والمذاكرة، إلى جانب بعض الأنشطة الثقافية الأخرى، معرجا على الدور المهم الذي اضطلعت به هذه النوادي، على صعيد نشر التعليم والدعوة إلى الارتقاء به، وتوليها مهمة إرسال طلاب إلى الخارج، وإنشاء المدارس، مع إقرار نظام اللغة العربية في التدريس . كما كان لهذه الأندية نشاطات على الصعيد السياسي والاجتماعي والوطني، أشار إليها الباحث، وبالذات دورها الوطني الكبير في تأكيد وحدة الأرض اليمنية، وتأهيل حركة التحرير والثورة، بحيث تشكل على ضوء ذلك حركة وطنية يمنية موحدة لها صوتها وفعلها الذي أثر في الواقع السياسي والثقافي لليمن كلها. وعلى صعيد دور تلك النوادي المهم مع (الصحافة)، فقد أشار علي حداد إلى أن تضافر جهود الطرفين أدى إلى إنضاج مستوى متميز من الوعي والتجارب الثقافية والأدبية اللافتة للاهتمام . إن الأول من العام 1940م يوم مشهود كونه يؤرخ لصدور أول صحيفة عربية في عدن هي (فتاة الجزيرة)، توالى بعدها إصدار الصحف والمجلات في عدن، حتى بلغ عددها في السنوات اللاحقة بحدود الخمسين صحيفة ومجلة، بما جعل من عدن مركزا صحفيا وإعلاميا مهما ليس في اليمن بل وفي ما يحيطها من البلدان أيضا .

وكان الباحث محقا في ربطه بين ظهور الصحافة في عدن وارتقاء الأدب اليمني في عدن إلى مستويات مذهبية وموضعية مغايرة للسائد في المنطقة، وظهور أولى الروايات والقصص، معلنة عن حضورها بوصفها أنواعا جديدة على نحو لافت، ونقلها الشعر إلى آفاق تعبيرية جديدة. كما كان لطبع الدواوين الشعرية والكتب الثقافية المختلفة العربية والمترجمة في عدن بحكم استيراد المطابع، تزامنا مع ما كان يرد إليها من الكتب الصادرة في البلدان العربية الأخرى، وما كانت تقوم به بعض المؤسسات الأجنبية من ترويج للكتب وإقامة المكتبات، أثره في ازدهار الحركة الثقافية في المدينة، وجعلها أسبق مناطق اليمن إلى معرفة المستجدات الثقافية والحضارية، بل لعلها أول مدينة في الجزيرة العربية والخليج حققت ذلك اللقاء الحضاري مع الوافد الجديد بمختلف تمثلاته. ويعيد د. علي حداد كل ذلك إلى الجهود الدائبة والنبيلة لنخبة طيبة من أبنائها، كانوا اللبنة الأولى التي شيدت عليها دعائم نهضة عدن ومكانتها، وبين تلك الصفوة التي أحبت مدينتها وأخلصت لها في نواياها وجهودها، تبرز قامة مثقف كبير متنور حقيقي.. اسمه ( محمد علي لقمان ) .( 2 ) قام الباحث بالربط المحكم بين الظروف العامة المحيطة بلقمان، مع ما توافرت عليه شخصيته من ظروف تنشئة خاصة، التي صنعت منه تكوينا إنسانيا وفكريا متميزا، وضعته بجدارة في طليعة رواد التحديث والتنوير في اليمن، وارتقت به إلى مصاف رجالات النهضة الإنسانية الحديثة .

وتعد صحيفة ( فتاة الجزيرة ) - حسب الباحث - مدرسته التي أراد من خلالها أن تصل أفكاره إلى أكبر عدد ممكن من أبناء مدينته، ومكتب محاماته الذي لن يكرسه للدفاع عن قضايا فردية خاصة بل ليجعله منبرا لقضايا الوطن وشؤونه وشجونه، والدعوة المثقفة الصريحة للارتقاء بالواقع في مختلف جوانبه. وشكل (مخيم أبي الطيب) الذي أسسه محمد علي لقمان في العام 1939م، فاتحة جديدة لتجربة الأندية والصالونات في عدن، هذه التجربة التي لم تكن بالجديدة علي لقمان الذي كان مديرا لأول ناد أدبي في عدن العام 1925م وهو (نادي الأدب العربي)، وقد كان لـ(مخيم أبي الطيب) دوره الكبير في الحركة الثقافية، وفي توجيه المثقفين والارتقاء الجاد بما ينشغلون به من شؤون ثقافية متعددة. ولم يفت الباحث الإشارة إلى أن المحاضرات والنقاشات المدونة والنصوص الأدبية لـ «المخيم» شكلت مادة إضافية لإغناء صفحات (فتاة الجزيرة)، فضلا عن تحول معظمها لاحقا إلى كتب ودواوين شعرية. وفيما يخص تأليف لقمان الكتب والأعمال الإبداعية، وفي مجالاتها المختلفة، فقد رأى فيها الباحث مسايرة لجهوده التنويرية، بما يفصح بعمق عن هذه الشخصية الناضجة الوعي ومقدرتها الباذخة على الاستيعاب والتمثل لكل ذلك الذي واجهه بصره وبصيرته، وقراءة موضوعية ووعي حاضرين.

( 3 ) فيما يخص الحضور الثقافي التنويري الفاعل للقمان، يشير د. علي حداد، إلى أنه أقامها على منظومة مترابطة من الوعي والممارسة اتسعت حتى شملت مختلف جوانب الفكر والاجتماع والأدب، مقدما أمثلة وافية من كتاباته المختلفة.. مثل : - رؤيته لارتباط حركية مسارات الحياة الإنسانية بوجوده الاجتماعي وتمثله لتلك القيمة وإحساسه بها .

- رؤيته إن المجتمعات كما الفرد تتحرك في ظل نواميس التطور على وفق قاعدة من النشوء والارتقاء.

كما أورد الباحث منظومة أخرى من الأفكار والمواقف حكمت كتاباته، كما حكمت حياته الثرية.( 4) تتجلى رؤية لقمان في تأمل التجربة الإنسانية في بعدين زمانيين - حسب الباحث - : الأول، وهو (الحاضر) ويتداول فاعليتين إنسانيتين : الأولى، وتخص (الغرب) حيث حضارته الراهنة والمتقدمة، والأخرى، ويمثلها الراهن العربي الذي نحن فيه، وما يكتنفه من توزع حضاري وتختلف بحكم هيمنته وقيمته، وبذا تشكل ثلاثة مواقف أو تجارب - كما يشير الباحث - يقف لقمان عندها متأملا، وإن كان بنصيب متفاوت لكل منها، وهي :التراث : وهو منجز الأسلاف الحضاري الباهر. الحضارة الحديثة : وهي المتحققة للغرب في العصر الحديثة . التخلف الحضاري : وذلك ما يعانيه الواقع العربي الراهن . وقد أخضع د. علي حداد، مجمل هذه القضايا للدراسة المتبصرة والمتعمقة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى