نظرات في أحوال العرب

> أحمد ماهر:

>
أحمد ماهر
أحمد ماهر
يثير الموقف العربي العام مزيجا من الجزع.. والغضب. الجزع لأن الأمور تسير غالبا من سيئ الى أسوأ، وتدخل في مغارات مظلمة متتالية لا يكاد يلوح أمل الخروج من إحداها الى بصيص من النور، حتى تتراكم السحب فتطفئ الضوء الى ان يأتي مدخل النفق التالي.

والغضب لأننا في كثير من الأحوال نملك القدرة على أن نتجنب المغارات والأنفاق اذا تركنا السير على القضبان التقليدية وسلكنا طرقا متاحة لمن هو على استعداد لبذل جهد حقيقي لتجنب متاهات الضياع وولوج أبواب الخلاص، وذلك يقتضي منا ـ نحن العرب ـ أن ندرك أن أحدا لن ينجو وحده، وان الفرقة مهما كانت اسبابها أو مبرراتها التي قد تستند الى رواسب من الماضي القريب او البعيد، وقد تغذيها اعتبارات داخلية او خارجية يكون بعضها حقيقيا ولكن الكثير منها مفتعل. هذه الفرقة هي التي تهدم السدود أمام «السونامي». ولست اعرف كيف يرضى بعضنا لنا ـ هم ونحن ـ بهذا الوضع ثم يتباكون ويكيلون الاتهامات للآخرين ويسخفون جهدهم ويبددون ثمار زرعهم، ويجففون أنهار آمالهم، دون ان يدركوا ان العالم الخارجي ـ حتى اذا لم يكن بالضرورة متآمرا ـ فإنه لا يتورع ـ وليس من المنطقي ان يتورع ـ عن الاستفادة من أوضاع متردية ليس من الضروري ان تظل كذلك لولا أن العقلاء يتركون الساحة متاحة أمام السفهاء فيعيثون في الأرض فساد الفرقة والتنابذ الذي يفتح الثغرات وينشر الظلمات ويبدد الآمال والتطلعات ولولا ان الغرور يصيب أحيانا من لا يقدرون مسؤولية الانتصار.

هذا كلام ينطلق ـ ليس من يأس، مع ان ما يجري قد يبرره، أو من غضب أو ضيق بطرف دون آخر، بل من قراءة صحيحة لحاضر بائس تكاد صفحاته ان تطوي صفحات أكثر اشراقا تجاوزنا فيها اليأس المدمر، والحماس المبالغ فيه، والأنانية التي جعلت «الوطني» في مواجهة «القومي» مع انهما مترادفان ومتكاملان وهو ما ادركه من لا يريدون بنا الخير بينما نسيه من يعملون عن جهل أو عن غرض، بواعز من ظلمات نفوسهم أو بوسوسة من أصدقاء السوء، على التفرقة والتقسيم مما نراه احيانا داخل اقطارنا، وأحيانا اخرى في العلاقة بين دولنا.

كتبت ما سبق بعد ان سمعت نبأ الاغتيال الغادر لوزير الصناعة اللبنانى بيير الجميل في عز النهار في بيروت. ويأتي هذا الاغتيال وسط جو محتقن بعد فشل الحوار الوطني، وبعد تهديدات حزب الله بالنزول الى الشارع لإسقاط حكومة السنيورة بعد ان انسحب منها الوزراء الشيعة من جناحي نصر الله وبري وبعد أن اعلن رئيس الجمهورية ـ على غير سند دستوري سليم ـ انها أصبحت حكومة غير شرعية وغير دستورية. واقترن هذا ببحث واقرار الاتفاق مع الأمم المتحدة حول تشكيل المحكمة الدولية التي ستختص بمحاكمة المتهمين بجرائم اغتيال الرئيس الحريري ومرافقيه وبقية الشخصيات التي أصابتها يد الاجرام الذي قد يكون مصدره واحد أو تكون مصادره متعددة تسعى لخلط الاوراق عن عمد لتحقيق هدف إلقاء لبنان مرة أخرى في أتون حرب أهلية تكرر مآسي الماضي ومآسي الحاضر التي نراها في العراق. ومن المحزن ان يندفع لبنان ـ او يدفع ـ الى هذه الهوة بعد ان كان الأمل قد لاح لأسباب كثيرة في ان يسود التعقل ويتم تجاوز حساسيات لا تمت بصلة الى مصلحة لبنان الذي نحبه وكنا نتمنى ان يحبه كل أبنائه بنفس القدر الذي يجنبه ـ ويجنبهم جميعا ـ مزالق لا تخدم في النهاية إلا المتربصين وعلى رأسهم اسرائيل.

وفي هذه الظروف ـ بينما البركان يغلي والعواصف ترعد والزوابع تتجمع ـ أفليس من الممكن أن نتوقع من العرب جهدا مشتركا أكثر إلحاحا الآن مما كان قبيل اجتماع الطائف. إنه من الغريب والمحزن والمؤلم أن تضيع الجامعة العربية وقتها ووقتنا، وجهدها في إصدار قرارات تتمخض أحيانا كثيرة عن ضجيج بغير طحن، بدلا من ان تسعى بجدية وإصرار من منطلق التضامن مع لبنان كله والمحبة لأبنائه جميعهم لكي نخلق المناخ الداخلي والخارجي (ـ بعيدا عن المهاترات والاتهامات والصراعات الرخيصة موضوعا وفادحة الثمن على أرض الواقع ـ) لتصالح حقيقي. إن الأمن القومي العربي كله مهدد بما يجري في لبنان، كما هو مهدد بما يجري في العراق وفي السودان، وبما قد يكون مدبرا لسوريا، وبالقلق الذي يسود دول الخليج، وليس من المنطقي ذلك كله ان يقف بعضنا موقف المتفرجين، والبعض الآخر موقفا حتى شكليا مع المحرضين، ولعلي أكون معذورا ـ من فرط جزعي وغضبي وقلقي وحزني ـ الذي اعرف أن الكثيرين من المحيط الى الخليج ومن المتوسط الى قلب افريقيا يشاركون فيه ـ لعلي معذورا اذا كررت أهمية عقد لقاء مفتوح للزعماء العرب يكون همه بناء جسور حقيقية وصلبة تعبر عليها المصالح وهي مشتركة، والنفوس لكي تهدأ وتستقر، والقلوب لتتخلص من نوازع الشر المزروعة أو المخلقة، لتلتقي عند نقطة تحصننا من التشرذم الذي يؤدي الى ان تذرونا الرياح.

هذا كلام قد يبدو فيه كثير من المبالغة في تسويد الصورة ثم الافراط في الامل في موقف عربي موحد، والحقيقة ان الصورة قاتمة فعلا، وأيضا أن امكانات صحوة عربية مشتركة موجودة يمكن ان يستخرجها التصميم من براثن ما يشبه اليأس، وأن يستدعيها الاقتناع الواقعي بأن توحيد الاستراتيجية ـ حتى اذا تعددت احيانا بالضرورة التكتيكات ـ هو ضرورة حياة وبقاء وبالتالي فهو ممكن. وليست هناك معارك عربية عربية لا يخرج منها الجميع مثخنين بالجراح، ولا معارك أهلية لا تعرض الوطن كله ـ وأبناءه كلهم ـ للغرق.

العراق يحتاج الى استئناف الجهد العربي للمصالحة الذي بدأ مبشرا الى ان أصابه الوهن وربما الضجر غير المبرر، لأنه لا يعقل ان نترك قطرا عربيا شقيقا بين خيارات كلها مرة: خيار استمرار الاحتلال، وخيار الحرب الأهلية تقود الى التقسيم، وخيار الخلط بين مقاومة مشروعة، وجرائم مرفوضة، وحنين غير مبرر لماض قريب عانى منه العرب جميعا، وتشويه مستقبل حتى قبل أن تبدأ شمسه في الشروق على وطن حر مستقل متصالح مع نفسه ومع غيره.

وفلسطين اضاف ابناؤها آلام الانقسام الى وطأة احتلال عدواني غاشم يتسلح ـ علاوة على اسلحة الدمار الشامل والاسلحة الممنوعة ـ بسلاح التأييد الأحمق من دولة تتصور أن العظمة بالقوة الغاشمة وليس بقوة المبادئ والشرعية واحترام القانون. وبينما العدو ينشط، نرى استمرار الفتنة بين القوى الوطنية وعجزها عن التوصل الى صياغة لا يكون فيها منتصر الا الوطن. وهنا أيضا فالدور العربي مطلوب وممكن، تعزيزا لجهود تبذلها منفردة مصر ودول أخرى لن تحقق هدفها تحقيقا كاملا إلا في اطار موحد يتجاوز الزوايا الضيقة الحادة، الى الزوايا الواسعة المنفرجة.

وبينما يجب ان تبذل الجهود في تلك الاتجاهات، فعليها ان تلقي بنظراتها ايضا الى الخارج: الخارج البعيد الذي تأتي منه الأعاصير، والخارج القريب الذي يجب ان نحدد معه الدور الذي يضطلع به حتى يتحقق الأمن لنا وله. ولعل هذا يتعلق اول ما يتعلق بإيران، فهي دولة اقليمية تثير قلقا مبررا لدى البعض، ولكنها ـ اذا استطعنا ان نوحد المواقف ونحل مشاكلنا ـ قد تصبح ـ بالحوار ـ صديقا نستفيد من صداقته ونسوي مشاكلنا معه مما يزيل القلق او بعضه وليس من شك في ان توجيه ضربة اسرائيلية لايران ـ وهو ما كثر الحديث عنه إلى درجة أن المصادر الامريكية ذكرت أن الرئيس بوش لا يؤيد مثل تلك الضربة ولكنه يتفهمها!! ـ سوف يكون مصدرا لمزيد من الاضطراب، في منطقي هي في غنى عنه ولعل الموضوع كله يحتاج من الدول العربية الى نظرة متعمقة وشاملة.

وزير الخارجية المصري السابق

عن «الشرق الأوسط» 24 نوفمبر 2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى