الأخلاق في مضمون الديمقراطية وشكلها

> أمذيب صالح أحمد:

> إذا كانت المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية تهدف الى تحقيق العدل على الأرض بين الناس فان هذا العدل لا يتحقق إلا باحترام وصيانة حقوق الانسان وحرياته الأساسية. وقد أدرك الإسلام مبكراً ان من بين العوامل الأساسية في بناء المجتمع الديمقراطي التي تحفظ حقوق الانسان وحرياته عامل الأخلاق.

فالأخلاق في جوهرها تعتبر سياجا واقيا لحماية هذه الحقوق والحريات، ولذلك قسمها الإسلام الى قسمين أحدهما ايجابي يظهر الحقوق ويعززها بما تلزمه الشريعة على الجميع من صدق وأمانة ووفاء واستقامة واعتدال وصبر وحكمة وعفة وتواضع وإيثار ورحمة وإخاء وتسامح وإحسان.والآخر سلبي يدفع عن الحقوق كل انتهاك أو اعتداء بما توجبه الشريعة على الجميع من اجتنابه من كذب وخيانة واستكبار وبغي وفساد ولغو القول وغضب وخصام وفضول وجهر بسوء وفسق وغرور وتكبر وأثرة وطمع وبغض وقسوة وحسد وغيبة ونميمة وبخل وسرقة.

فالأخلاق هي موقف الانسان نحو الآخر فإن التزم بمحاسنها احترم حقوق الآخر وان لم يجتنب مساوئها انتهك حقوق الآخر.وبناء على ذلك يعتبر الالتزام بالأخلاق الحميدة واجتناب الأخلاق الذميمة جزءاً من الحقوق الأساسية للناس وجزءاً من الواجبات على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الدولة في المجتمع المسلم، لان الشريعة الإسلامية توجبها لزوماً وشرعاً وبطريقة شاملة ومتكاملة وليس لأحد اختيار بعضها أو الانتقاص من بعضها كما تتطلبها مصالح القوى الحاكمة أو المتنفذة بحكم مصالحها وإمكانياتها لأنها موضوعة بحكم الله ومؤكدة بسنة رسوله في إتمام مكارم الأخلاق فالله يقول في محكم كتابه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/13) وبما ان اتقى الناس الذي يلتزم بأوامر ربه من الأخلاق الحميدة وغيرها ويجتنب نواهيه من الأخلاق الذميمة عند الله أكرم الناس لان شريعته تهدف أساساً الى حفظ حقوق الانسان واحترام حرياته التي تتجلى في العدل الشامل على كافة المستويات الحياتية.

أما الأخلاق الحميدة في الديمقراطية الغربية فكانت عبارة عن مواعظ خُلُقية منقولة عن المسيح عليه السلام، فلم يكن لها ذلك الإلزام القانوني أو الشرعي في المجتمعات الغربية بسبب عدم استقرار التعاليم المسيحية التي تتغير وتتحور عبر القرون على أيدي رجالات الكنيسة وشُراحها حسب أهوائهم وسياساتهم، كما ان فلاسفة الطبيعة ودعاة التحرر القومي الذين عاصروا الغزو الإمبريالي الأوروبي في قهر الشعوب الأخرى واحتلال بلدانهم في مختلف قارات العالم قد استكانوا نظرياً لمبدأ النفعية القائلة بأن «الغاية تبرر الوسيلة». أي انه لا يجب الالتزام أخلاقياً بأي سلوك إنساني حسن أو حميد لا يحقق المصالح الخاصة لهذه الدول الأوروبية حتى لو كان بنهب الشعوب المقهورة وإذلالها بالقتل والفناء كما حدث فعلاً في أفريقيا وأمريكا واستراليا في القرون الماضية وما قام به الصِرب قريباً من إبادة جماعية منظمة لآلاف الأسرى المسلمين في البوسنة في تسعينيات القرن الماضي وما قام به الأمريكان من إبادة جماعية لآلاف الأسرى المسلمين داخل الحاويات في أفغانستان ومذهب «الغاية تبرر الوسيلة» أصبح سياسة للأقوياء والشركات الاقتصادية والمؤسسات في إطار ديمقراطية الدولة الرأسمالية دون ان تنفجر في صراع دموي دفعا ومنعا لشرعية التحليل الماركسي لهذا المذهب. ومذهب المنفعة البراجماتي الذي يحكم الحياة الأمريكية والغربية ينطلق من النظرة المادية في الحياة، فمادامت المصالح تتغير فإن الأخلاق لا ثبات لها بل تتغير حسب المصالح الخاصة، فما ينفع (الأنا) حتى لو كان ضاراً (للآخر) فهو خلق حميد. ولذلك فان الأخلاق لا علاقة لها بحماية حقوق الانسان في المنظور الغربي. أما في الإسلام الذي ينطلق من احتكام الحياة المادية الى الخالق الرحمن الرحيم فان ما ينفع (الأنا) ويضر (الآخر) لا تقبله شريعة الإسلام إذ (لا ضرر ولا ضرار) لان الأخلاق في الإسلام ثابتة لا تتغير حسب المنافع الذاتية والمصالح الخاصة ولكنها قائمه راسخة بقانون إلهي لرعاية حقوق الانسان كيفما كان مستقوياً أو مستضعفاً.

ومن تأمل في مفهوم الأخلاق الحميدة لوجد أنها تعتبر الحصن الواقي لحقوق الانسان وحرياته، وقد أدرك الإسلام ذلك بعمق شديد. فكل خُلُق حميد يؤدي إلى حفظ لحق إنساني واحترام لحرية من حريات الإنسان وكل خلق ذميم يؤدي الى اعتداء على حق إنساني وانتهاك لحرية من حريات الإنسان. فقد استغرب غير المسلمين في كثير من الحالات طوال التاريخ حين رأوا المسلمين لا يقتلون الأسرى ويترفقون بهم حسب تعاليم دينهم ناهيك عن أخلاق الراشدين من الحكام وولاة الأمور في مختلف أنحاء دولة الإسلام. يؤكد العلماء أن الكون تحكمه ثلاث طبقات من القوانين تتدرج من الأدنى الى الأعلى وكلما كان القانون أعلى طبقة فانه يكون أرقى من القانون الذي هو في الطبقة الأدنى.

فالطبقة الدنيا من القوانين هي تلك التي يشترك فيها الانسان والحيوان والمادة وهذه القوانين تعتبر الأقل رقياً فهي التي تتحكم فقط في المادة الصماء ويكتشف قوانينها الانسان كل يوم.

أما الطبقة الثانية من القوانين التي تعلو السابقة فهي تلك التي يشترك فيها الإنسان والحيوان وهي التي تتحكم في جسم الإنسان وجسم الحيوان ويكتشفها الانسان كل يوم غير أن قوانين الغرائز الفطرية تعتبر اشهر هذه القوانين الحيوية، وهذه الطبقة من القوانين الحيوية تعتبر أرقى من القوانين المادية التي تحكم المادة فقط.

أما الطبقة الثالثة من القوانين فهي تلك القوانين الخاصة بإنسانية الانسان عقلا وسلوكا وهي التي يتميز بها الانسان عن الحيوان والمادة،ومعظمها يتعلق بتفكير الانسان وسلوكه الذي يتجه بتصرفاته نحو الاهتمام ببناء القيم الإنسانية والأخلاق الفاضلة الرفيعة اللتين يدور في فلكهما حقوق الانسان وحرياته.

وهذه الطبقة من القوانين الإنسانية تعتبر الأرقى والأعظم لأنها لا توجد في الحيوان ولا في المادة، كما أن القوانين التي يشترك فيها الانسان والحيوان لا توجد في المادة والعكس صحيح، فكل قانون في مرتبة أدنى يوجد حتما في المرتبة الأعلى. أما القانون في المرتبة العليا فقد لا يوجد في المراتب الدنيا. فمثلاً القانون الإنساني لا يوجد في الحيوان ولا يوجد في المادة. أما القانون الحيوي فقد يوجد في الانسان والحيوان ولا يوجد في المادة. أما القانون المادي فقد يوجد في المادة والحيوان والإنسان.

والله حينما كرم الإنسان من بين مخلوقاته فضله بالقوانين الأخلاقية لأنها تحفظ حقوق الله وحقوق البشر وحقوق الحيوان وحقوق المادة وتحميها من العبث والخسران. ولم يكن ذلك عبثا بل إدراكا من العناية الإلهية بالإنسان كي يستعمر الأرض ويعيش عليها وفقا لطبقة القوانين الإنسانية الراقية جداً.

فإذا كانت الزلازل والكوارث الطبيعية مثلا ناشئة عن اختلال في قوانين التوازن في المادة فلا نستغرب في المجال الإنساني أن تظهر الحركات المتطرفة أو المتعصبة التي نراها غير متزنة أو معتدلة وهي في حقيقتها احتجاج لإصلاح خلل في قانون التوازن والتعادل الحياتي للبشر الناشئ عن قانون عام تتصف به المادة ويتصف به الإنسان والحيوان، بل إن دعوات الإصلاح من الأنبياء ومعظم الثورات البشرية انطلقت لتصحيح الاختلال وفق هذا القانون. فقانون التوازن في المادة تطور في طبقة القوانين الإنسانية الى قانون للعدالة الاجتماعية ناهيك عن بقائه في الجسم المادي للإنسان قانونا للتوازن المادي.

ولذلك فإن حقوق الإنسان كغاية ومضمون للديمقراطية لا يمكن فصلها عن الأخلاق الحميدة التي هي وسيلة للديمقراطية تبتغي بها حفظ حقوق الإنسان أي مضمون الديمقراطية. فكل اعتداء على حقوق الإنسان _التي هي أرقى القوانين الإنسانية_ بوسائل مختلفة خشنة أو ناعمة، ظاهرة أو خفية، مباشرة أو غير مباشرة، يستثير في الإنسان الآخر، المعتدى على حقوقه، استخدام طبقة القوانين الحيوية والمادية للرفض والمقاومة. ولذلك شرع الله الأخلاق لحفظ حقوق الناس وحمايتها كقانون إنساني عام وسمح بالجهاد والقتال والدفاع عنها وفقا للقوانين المادية والحيوية ضد الذين يخترقون القانون الإنساني بالظلم والاستغلال للآخرين بغير رحمة من الأنانيين والاستكباريين الذين يتخلقون بالقوانين الحيوانية الغريزية التي تجافي القوانين الإنسانية الراقية في العدالة والتوازن. فالفلسفة «البراجماتية» التي يتبجح بها أنصارها الأمريكان وأتباعهم في الغرب التي تقول بأن الأفكار تكتسب حقيقتها ومعناها من نتائجها العملية التي يستفيد منها صاحبها، ويتمذهبون بها سياسياً وثقافياً واقتصادياً وتدور في نطاقها مفاهيم ديمقراطيتهم لا تخرج عن كونها تدور في نطاق المذهب النفعي والذاتي ولا تتجاوزه كقانون اجتماعي من طبقة القوانين الحيوانية كما أنها لا تستطيع أن ترقى الى مرتبة القوانين الإنسانية حتى لو تلثمت بمنجزات العلم والتكنولوجيا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى