إنك لا تجني من الشوك العنب

> الصادق المهدي:

> الاتحاد السوفياتي وقد كان في أوج قوته العسكرية، ضاق ذرعا بما كان يجري في أفغانستان فقرر حسم الأمر عن طريق الاحتلال العسكري في 1979. وفي عام 1980 دعينا لمؤتمر إسلامي في طشقند حيث ألقيت كلمة ناشدت فيها الاتحاد السوفياتي الانسحاب من أفغانستان عربونا للصداقة مع الشعب الأفغاني والعالم الإسلامي. وقلت إن الاحتلال معناه استعداء المسلمين.

أصرَّ الاتحاد السوفياتي على موقفه، فواجه مقاومة جهادية وجدت تأييدا إسلاميا عريضا ووجدت في ظروف الحرب الباردة دعما أمريكيا، وواجه عزلة دولية سقط بسببها وبأسباب أخرى عام 1989.

قوى المقاومة الإسلامية التي نشأت في مقاومة السوفيات اكتسبت جنودا وخبرات وقنوات تمويل مكنتها مع تغير الظروف من تبني أجندة معادية للغرب وصلت قمتها في أحداث 11 سبتمبر في أمريكا.

ركبت الإدارة الأمريكية بقيادة اليمين المتشدد بعد الأحداث موجة الخوف والغضب الذي عم أمريكا خاصة والغرب عامة، فأعلنت حرباً عالمية على «الإرهاب» أطاحت نظام طالبان في أفغانستان لإيوائه جماعة «القاعدة»، واحتلت البلاد، وربطت القيادة الأمريكية بين العراق وتنظيم «القاعدة» وعززت موقفها ضده باتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل مبررة احتلاله.

في سبتمبر 2002، أعلنت أمريكا سياسة دفاعية تبيح لها الحرب الاستباقية الانفرادية. وبموجب هذه السياسة واصلت حربها على «الإرهاب» بتعريفها الخاص له، واستخدمت أساليب مخالفة للقانون الدولي الإنساني في التعامل مع الأسرى والسجناء، مما أدى إلى عزلها من حلفائها الغربيين، ومن الرأي العام الأمريكي والعالمي.

جاء في تقرير جورج تنت، مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، لمجلس الشيوخ في فبراير 2004: «إننا نحقق نصرا تكتيكيا على القاعدة لكننا نخسر استراتيجيا، فالتعبئة المضادة لأمريكا في العالم الإسلامي، وانتشار تجارب أسامة بن لادن القتالية يُمِدان المواجهة ضدنا بوقود مستمر».

الرأي العام العالمي لم يعد يسكت عن حقيقة أن أسلوب التصدي لـ«الإرهاب» بقيادة أمريكا زاده انتشارا. كما أن استخدام وسائل مخالفة للقانون الدولي الإنساني في محاربته خلق نوعا من التعادل الأخلاقي بين طرفي النزاع. في سبيل التحضير لقمة الثمانية الكبار التي ستعقد في ألمانيا عام2007، دعا المجلس الألماني للشؤون الخارجية بالتضامن مع نادي مدريد إلى حلقة نقاش في برلين في 16 نوفمبر 2006 استمرت ليومين.

وجهت الدعوة لثلاثين شخصا من ساسة، وخبراء، وأكاديميين، وتنفيذيين ومنظمات مجتمع مدني، كلهم من مواطني الدول الثماني الكبيرة باستثناء شخصي.

وبما أن ما يدور في حلقة النقاش لا يجوز نشره، فقد انطلق الحاضرون في نقاش حاد وصريح صراحة لا أعتقد أن وجود شخص مثلي من عالم الجنوب قد حدَّ منها.

اتضح لي مدى إدراك الحاضرين لأن السياسات الغربية نحو العالم الثالث لا سيما الإسلامي مشبعة بالأخطاء. وأن الحملة على «الإرهاب» لم تحقق مقاصدها. اعتبرت نفسي ممثلا للأغلبية الغائبة وتحدثت بصراحة عن تشخيص العلل والعلاج الممكن؛ وفيما يلي ألخص ما يصلح للنشر من مداخلتي:

- «الإرهاب» همٌّ عالمي لا يخص الدول الكبرى وحدها. ولتكوين جبهة عريضة ضده ينبغي الاتفاق على تعريفه لكيلا يخلط مع مقاومة الاحتلال. ولكيلا يفلِتَ الرسميون الذين يرتكبونه من المُساءلة والعقاب.

- ينبغي قيام الحملة على «الإرهاب» على أربع ركائز: الوقاية الأمنية ـ الردع ـ تجفيف منابعه ـ التعبئة الشعبية ضده. الحملة الحالية ركزت على الوقاية الأمنية والردع وأهملت ما ينبغي عمله لتجفيف صفوفه بل مكنته من تجنيد المزيد. وزادت التعاطف الشعبي معه. وما صحب الحملة من تعديات على حقوق الإنسان أفقدها السمو الأخلاقي.

- قمة الدول الثماني تعدت طابعها الاقتصادي الذي بدأت به وصارت تتناول أجندات أوسع كأنها أمم متحدة فوق الأمم المتحدة.

هذا الاستعلاء سيزيد من حدة الاستقطاب بينهم وبين دول «العالم الثالث» التي اجتمعت في هافانا العام الحالي، ويزيد من حدة الاستقطاب الشعبي الذي يقوده الاحتجاج الإسلامي متحالفا مع حركات الرفض للعولمة في الدول الغنية. ينبغي أن تهتم الدول الثماني الأغنى بهذه العوامل، وأن تسعى لتوسيع قمة الثماني لتمثيل أقاليم العالم الأخرى كمجلس «أمن» يعنى بالمسائل الاجتماعية الاقتصادية وإيجاد صيغة للاستماع لصوت الشعوب.

- من متابعتي للجدل في الغرب ظهر لي أن هناك سوء فهم فادح لأسباب الغضب في العالم الإسلامي. فبعضهم يرجعه للحروب الصليبية وقد أدهشتني افتتاحية في جريدة «التايمز» اللندنية قبل شهر عزت الغضب للطرد من الأندلس! هذه سجالات دخلت ذاكرة التاريخ. فالحروب الصليبية انتهت لصالح المسلمين وبعد الطرد من جنوب أوربا تمدد الإسلام في شرق أوروبا وفي جنوب شرقي آسيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء.

الغضب الحالي يعود لمصادر حديثة بدءا من الاستعمار ثم الاستيطان والاستغلال ثم التهميش والإذلال. هذه العوامل تحرك المسلمين كافة، وإن اختلفت الأساليب.

وينبغي أن يعلم الاستراتيجيون في الغرب أن تسليم قيادتهم للغلاة، كما حدث فعلا في الولايات المتحدة واتخاذ غلاة الغرب نهجا إملائيا استعلائيا باطشا يبرر أجندات الغلاة في العالم الإسلامي ويـهـزم الوسـطـية.

- بالإضافة للمظالم التي يعانيها المسلمون اليوم، أطلت مظالم جديدة، أهمها ما تعانيه الجماعات المسلمة في الغرب من اضطهاد ديني وثقافي واجتماعي زاده التشكك الأمني الجديد حدة. الدول الغربية تعترف بأن سوء معاملة الجماعات اليهودية المستقرة عندهم في الماضي أفرز ظاهرة معاداة السامية التي أفرزت الصهيونية.

واليوم ورد إحصاء يذكر أن من بين 50 منظمة مندفعة في العنف العشوائي فإن27 متصلة بالأقليات المستقرة في الغرب! بل يرى أحد المحللين أوليفر روى ـ أن «الإرهاب» الحديث مولود غربي، وإن كان مولد وفكر رواده إسلاميا. لذلك ينبغي أن تهتم الدول الغربية بهذا الملف وتتوصل بالحوار الديمقراطي مع هذه الجماعات لمعادلة تؤكد احترام الجماعات الوافدة لنظم البلدان المضيفة مقابل الاعتراف بخصوصياتهم.

- اتفاقيات منع انتشار أسلحة الدمار الشامل فاشلة. ومنذ إبرامها فإن الانتشار يتسع. الحصول على أسلحة دمار شامل يعتمد على الإمكانات والمعرفة وهذان لا يمكن فرض وصاية عليهما، والدوافع هي التي يمكن التأثير عليها.

إن تسمية بعض البلدان محور شر والاحتفاظ بحق استباقي أحادي في التعامل معها يدفعها نحو البحث عن وسائل رادعة. كذلك استمرار وتعميق المظالم كما يحدث في فلسطين يغذي دوافع سباق التسليح. توافر العدالة الاستباقية وليس الهجوم الاستباقي هو أقوى وسائل تجفيف الدوافع لامتلاك أسلحة دمار شامل.

- ما لم يراجع الغرب سياساته الحالية ويجد في إطفاء بؤر الظلم الملتهبة، فإنه سيبرر أجندة الغلاة في العالم الإسلامي خاصة والعالم عامة ويمهد لهزيمة الأجندة الوسطية. إنك لا تجني من الشوكِ العنبَ!

عن «الشرق الأوسط» 27 نوفمبر 2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى