«الأيام» تستطلع أوضاع السويداء ومريب والسراحنة بالمسيمير.. بائسون ومظاليم بين سندان الفقر ومطرقة الظلام

> «الأيام» أنيس منصور حميدة:

>
الحجة سبولة وبيدها فانوس
الحجة سبولة وبيدها فانوس
على سهول منطقة حبيل السويداء وجبال مريب وهضبة السراحنة بمديرية المسيمير يعشش الفقر والحرمان منذ زمن طويل، ويكتوي القاطنون بسموم الآلام ويتذوقون علقم الحرمان .

الجراح والإهمال والفاقة هي سادة هذه المناطق بلا منازع .. مناظر يشيب لها الولدان.. مساكن شعبية بسيطة متفرقة، وعشش من الحطب المرصوص .. دهاليز بدائية ضيقة وأكواخ ترابية يأوي إليها مئات من الآدميين تحولت حياتهم إلى جحيم لا يطاق محيت عنهم الابتسامة .. سيماهم في وجوههم من أثر الفقر والعوز.. حياة قاسيةلم يعرفها الحواشب في تاريخهم الطويل.

«الايام» نزلت كشاهد عيان للظلام الدامس والفقر المدقع فخرجت بأنات ومناشدات وحقائق دامغة وأسئلة مريرة لشريحة البسطاء الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم «حواشب» .. فإلى التفاصيل.

البداية كانت من منطقة حبيل السويداء حيث استقبلنا من غير موعد عددٌ من الشباب والأطفال متجمعين على جدار دائري مطلي بالاسمنت والصفائح الحديدية .. تساءلنا بعد التعريف والمصافحة لماذا هذا العمل؟ فكان الصمت سيد اللقاء ثم كررنا السؤال فوضح كبيرهم ويدعى أنيس أحمد علي الفجاري أنهم يتعاونون على بناء خزان مياه على نفقة فاعل خير، وأشار بعد ذلك إلى بئر حولها ثلة من الأطفال الذين ارتسمت على محياهم براءة الطفولة التي غدت فريسة سهلة المنال لمغامرات جلب الماء من الوادي . وأضاف أنيس أن البئر أيضاً من ضمن جهود فاعل الخير وأنهم بحاجة ماسة إلى مضخة لرفع الماء إلى الحبيل كما شرح لنا قصة ومخاطر العقبة الكأداء قائلاً: «إن النساء والأطفال والحمير يجدون صعوبة الصعود على متعرجاتها». بهذه العبارة قطع ابن الفجاري كلامه عن قصة مأساة يتلظى بها أهالي السويداء إذ عجزت حكومة الإصلاحات الاقتصادية عن توفير مضخة مياه تخفف عنهم عناء التعب السرمدي.

ارتفعنا قليلاً بمحاذة أحياء السويداء واستوقفتنا الحجة سبولة مهدي عبداللطيف وبيدها فانوس قائلة: «هذا الضوء حقنا من زمان يا ولدي قل للمسؤول أين الكهرباء أين الوعود أين أين.؟» ثم ولت صامته إلى عشة مسقوفه بالحطب.. بهذه الصورة المحزنة يعيش الناس، يستخدمون الفوانيس البدوية القديمة والقماقم التي عايشت مراحل ما قبل الثورة، أما ما تسمى بالكهرباء فإنهم لم يعرفوا منها سوى أعمدة الضغط العالي التي مرت فوق أراضيهم وأوديتهم وسهولهم وهم محرومون من خيرها لأسباب غير معروفة، فالشكاوى والمتابعة ممزوجة بعلامات الاستفهام ونبرات التعجب، وقد تحدث إلى «الأيام» عشرات المواطنين عن قيام رئيس الوزراء في عام 92م بوضع حجر الاساس لمشروع توصيل التيار الكهربائي لمديرية المسيمير، ومنذ ذلك التاريخ تعاقبت حكومات وسقطت دول واعتلى الشيب مواليد عام 92م وحجر أساس كهرباء المسيمير مازالت صامدة تتحدى عوامل التعرية لعل مسؤولين آخرين يستبدلونها بأحجار من الطوب الأحمر الحديث بدلاً عن لبنات الاسمنت القديمة. وكررت الحجة (سبولة) إلينا حديثها بأنات محمومة محفوفة بالتوسلات والدعاء أن أنقل مأساتهم قائلة «الحقيقة أن انعدام الكهرباء هي المصيبة التي جعلتنا نشبه الوحوش، تراكتم علينا ظلم الحكومة وظلمات الليل، نحن معزولون لا نرى ولا نسمع أخبار العالم ومنجزات البلاد لأنه ما فيش كهرباء. بعض الناس الميسورين عندهم إذاعات محمولة، ويجتمع الناس حول الإذاعة لسماع الاخبار في منزل العاقل والشيخ».

وبعد هذه اللفتات الاستطلاعية البسيطة ودعنا حبيل سويداء وسكانه يلوكون أحزانهم، في عيونهم حسرات دائمة وأفواههم لا تفتح إلا مرتين في اليوم لوجبة واحدة.. يسمعون عن المليارات والملايين وهي توزع في نشرات الأخبار الإذاعية ويتمنى أحدهم أن ينام ذات ليلة ومصروف اليوم التالي تحت وسادته، ليس لهم أي مصدر دخل ثابت سوى نزر يسير من معاشات الرعاية الاجتماعية. يقول أحدهم رافضاً أن أقيد اسمه «لا يمكن لصاحب الدكان أن يقرضنا لأنه ليس لدينا رواتب رسمية من الدولة». بعضهم يعمل في بيع الليمون والزيتون والمنجا، لكنها تأتي في مواسم مؤقتة ويظلون في بقية الأيام دون عمل.

هذه هي الحياة في حبيل سويداء وهذه سنّتها، ولله في خلقه شؤون !

بئر حريب وحولها رجيع وروث الحمير ومياه الصرف الصحي
بئر حريب وحولها رجيع وروث الحمير ومياه الصرف الصحي
مريب المنسية
منطقة مريب تأتي بعد مسافة كيلومتر من السويداء خلف عقبة مائلة عمودياً تصل إلى مساكن متزاحمة بسيطة على قدر أهلها مشنوقة بين جبلين تزينها مدرسة ابتدائية تم بناؤها على نفقة هائل سعيد تسمى (مريب).. أوجاع الناس فيها بادية على الرصيف في ظل غياب موحش للخدمات، تستقبلك فوانيس متدلية على زوايا المنازل، يشعر المرء فيها بكآبة رغم طيبة أناسها الذين لا تغادرم الابتسامات الرقيقة والفكاهات والمودة، ففي مريب تلتقي المأساة بالمهزلة .. وعلى جوانب المدرسة ونواحي البيوت تتكدس مزابل القمامة والروائح العفنة لعدم وجود مصارف للصرف الصحي وانتشار (البالوعات) بطريقة عشوائية، وحول بئر الشرب رأينا رجيع وروث الحمير متكدسة .. مآسي المديرية تراكمت في مريب المنسية النائمة على ضفاف وادي تبن.

التقينا مجموعة من الشباب أحدهم يدعى هاني أحمد علي مقبل قال: «نحن أبناء مريب محرومون من خدمات السلطة وبالذات الكهرباء». ثم قاطعنا شهيم طه عبدالله مسعود متحدثاً: «يا مراسل «الأيام» أنتم أول صحيفة تصلون عندنا نشكركم. تكثر في منطقتنا الأمراض وبالذات الملاريا التي أتعبت الناس وكذلك الإسهالات ولم نلق أي عناية ولا مكافحة للبعوض الناقل للملاريا.. المسؤولون يمرون من الخط عبر مريب إلى المسيمير مرور الكرام ولا نعرف تواضعهم إلا وقت الانتخابات». وواصل بقية الحديث شاب آخر اسمه شهاب أحمد، عن حالات الضمان الاجتماعي التي شهدت تلاعباً وضياعاً ابتداءً من المسح الاجتماعي وانتهاءً بمقايل القات التي يحدث فيها التقاسم والبيع والشراء وإدخال آخرين من خارج المركز على حصة مريب، وتحدث شهاب عن قصة رجل طاعن في السن له عدد من الأطفال محروم من الرعاية الاجتماعية أجهدته المواعيد من عام إلى عام.

وبينما نحن نسير وسط مريب كانت المفاجأة لمشهد سريالي يجعل الحليم حيران.. لقد شاهدنا فتاة سمراء (معاقة) على كرسي متحرك تحت عريش من الثياب الممزقة جالسة طيلة النهار على قارعة الطريق ترقب الغادين ذهاباً وإياباً لعل فيهم من يعطيها فتاتاً من المال، تشاهد سيارات الجيب متنقلة عبر طريق عقان - المسيمير لعل واحداً منهم يذوب قلبه ويعطف عليها بما تيسر. قال لي أحد مرافقي أثناء الاستطلاع «إن هذه الفتاة تعيش على باب الله كما يقولون لأن الدنيا ضاقت عليها، والأسعار ارتفعت وننام على هم وغم.. هذا حالنا نحن الذين نتمتع بصحة وعافية من العاهات فما بالك بالمعاقين».

إضافة إلى تلك المشاهد المزعجة فإن الفقر في مريب انتزع التلاميذ من مقاعد الدراسة إلى السلك العسكري وإلى العمل في المزارع لتأمين لقمة العيش لأسرهم بل وصل حد الفقر والفاقة إلى اقصى ما يمكن تصوره فقد توحشت الكلاب كما حدث عندما هجمت ستة من كلاب مريب على الحجة (عتيقة محمد سريب) وهي نائمة في مزرعتها (نشرت «الأيام» تفاصيلها في العدد 4951)، هكذا هم أهالي مريب فقراء منسيون مقصيون مشردون بحاجة إلى نظرة حانية يستيقظ معها ضمير كل راعٍ على هذه المديرية .. مواطنو ومواطنات مريب تحاول قوى النفوذ ازهاق حقوقهم، تريد منهم أصواتا انتخابية لترجيح الميزان وتحرمهم العيش الإنساني الكريم .. لقد شاهدنا المعوزين والمظلومين في مريب كمساجين حكم عليهم بالإعدام مع وقف التنفيذ!

مجموعة من الشباب يتعاونون لبناء خزان
مجموعة من الشباب يتعاونون لبناء خزان
السراحنة يفتشون عن وطن
أبناء قرية السراحنة صامتون بلا حدود على حزم من بيوت مصغرة وغصص دائمة يمر السائرون على خط عدن - تعز وهي على بعد أمتار من الخط فيراها الناظر كعجوز أثقلها ألم الحمل والمخاض! السراحنة قبيلة عصماء قبل أن تكون قرية يتيمة الخدمات مصائبها أكبر من الوصف، ومآسيها مثل مآسي السويداء ومريب لا فرق غير أنهم كما يقول علي سعد السرحاني: «وجدوا أنفسهم يقتاتون الشعارات الفارغة، معجبون بالوعود المعسولة عن المشاريع التنموية التي طال ثم طال انتظارها». الشخصية الاجتماعية عادل منصور علي أجمل حديثه عن فداحة المأساة في هذه المناطق في قصاصة ورقية قائلاً : «إن ما يحدث لهذه المناطق والقرى يندى له الجبين، فهي في مهب الضياع ورحلة التيه، والفاسدون يسيرون بنا إلى متاهات مظلمة، أوضاعنا الاقتصادية متدهورة وحياتنا السياسية مقيدة، يضحكون علينا .. إنها معادلات تشبه (الفزورة) أو اللغز تزداد أحوالنا تعقيداً مع نطاق التساؤلات عن سبب غياب خير الحكومة عن هذه المساكن والسكان». وتحدث عادل أيضاً عن أمور سياسية ومناكفات لا داعي لإثارتها، كما أشار إلى معاناة وقضايا المزارعين وعدم وجود دعم لهم وغلاء الديزل ويؤرقهم مقابل قلة المحصول، كما أن كوارث السيول جرفت أراضي الفلاحين ولم يجدوا أي تعاون من مكتب الزراعة ولو حتى بشبوك جابيون دفاعية.

الحقيقة أن هذه المناطق بعيدة عن عيون الحكومة وهنالك عدة حيثيات جعلتها تعيش خارج نطاق التغطية الحكومية، وعن الكهرباء قال عادل منصور إنها «أصبحت من رابع المستحيلات» وتساءل إلى متى سيظل الوضع مزرياً ومخزياً ومؤلماً وبهذا اللون الداكن؟! ودعا عادل كلاً من محافظ لحج ومسؤولي المكاتب التنفيذية بالمحافظة إلى زيارة هذه المناطق ليروا الوضع رأي العين. بعد طول بحث ورصد في المناطق السابقة الذكر، هدّ الارهاق عزائمنا دون أن نتمكن من الإحاطة بباقي فصول المآسي والمشاهد الركامية الفاجعة وكان لا بد من الرحيل، خصوصاً وقد توسطت الشمس كبد السماء و(قرقرت) البطون للغداء والاسترخاء والاستعداد للمقيل، كذلك أزمة السيارات التي لا تخرج من تلك المناطق إلا نادراً جعلتنا نلملم ورق الاستطلاع للمغادرة بعد أن تعلمنا دروسا وعبرا وعظات للزمن القادم.

وقفات لابد منها
- أيها المسؤولون القادة الرعاة لا تغضبوا مني، إنه عتاب محب وجد نفسه مقتولاً بحب أبنا المسيمير مصلوباً على قراهم المكلومة.

- أحد مشايخ المناطق التي استطلعنا أحوالها عندما علم بقدومنا تخفى عنا ليس هروباً لكنه استحياء فليس لديه ما يمكن أن يقدمه لنا من كرم الضيافة كما يعتقد.. والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان هذا هو حال الشيخ فكيف أحوال الرعية؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

- لا أقول لأهالي المسيمير «كيفما تكونوا يولَّ عليكم» ولكن مازالت هناك استطلاعات قادمة لسكان ادغال مخران وشعثا ومكيديم ووادي الفقير على نغم «يا سامعين الصوت ردوا علي».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى