مرة أخرى .. وجهة نظر في التعليم

> علي هيثم الغريب:

>
علي هيثم الغريب
علي هيثم الغريب
أعتقد أننا نشاهد كل عام هجوم آلاف الشباب على الجامعات والمعاهد التعليمية، وبقاء معظمهم خارج جدرانها، والصدمات النفسية والمعنوية التي يتلقونها نتيجة ذلك. ونسمع باستمرار الكثير عن سير الدراسة في تلك الكليات التي أتى إليها أولئك الطلاب الذين ذكرت حالتهم في العدد (4944) من «الأيام» الغراء. فالمدرسة لا تعد الطلاب لكي يأخذوا أماكنهم في الجامعة ، والجامعة هي الاخرى لا تعد الخريجين فيها لكي يأخذوا أماكنهم في الحياة العملية.. ولا تربي فيهم الشخصية المتسقة المتطورة. كما يشكو الطلاب في المدرسة - ما قبل الجامعة- من تحميل البرامج والمواد فوق طاقتها، ومن عدم نجاعتها، ومن أساليب التدريس.. غير أن القضية الجوهرية في المدرسة كجهاز تربوي تعليمي تبقى مخفية. وأعتقد ان القضية الجوهرية للمدرسة الحديثة تتلخص في كون طابعها العام وتوجهها العملي لا يتفقان مع مبدأ التعليم الأساسي، الذي أضحى قديماً في تدريس «المواد» أو «الاسس العلمية»، وما يزال اختصاصيو «لمناهج» المدرسية يحافظون على هذا الوضع، وسوف يدافعون حتى آخر رمق عن «الأسس» التي تمكنوا من إدخالها إلى المدرسة.

وأعتقد أن المدخل لحل شامل لقضية «ماذا وكيف نُعلم» هو برأيي لا بد من برنامج حكومي حول الإصلاح المدرسي والتعليمي بحيث من خلاله تلزم هيئة التدريس بأن تعد الشباب للخروج إلى معترك الحياة كمهنيين. ولننظر من الناحية النظرية الصرفة إلى ما تعينه عبارة الإعداد للخروج إلى معترك الحياة.. إن هذه العبارة تعني وجوب التسلح بمهن تمكن الشباب من العمل.. ويمكن تقسيمها اصطلاحاً إلى قسمين، هي علم معرفة مهن النجارة والكهرباء والهندسة الميكانيكية والكمبيوتر وغيرها.. وتعلم هذه المهن العملية لا تعني المقدرة على التطبيق فقط (رغم أنه الأهم في أي مهنة)، بل والالمام ايضاً بلغة أجنبية لكي تتوسع مدارك الطالب بمهنته، وهو أيضاً المقدرة على استخدام الكمبيوتر ومعرفة لغة البرمجة وامتلاك تصور عام عن مختلف العلوم المرتبطة بمهنته.. عندها سيأتي العالم الينا ولن نذهب إليه، أما العلم الآخر فهو علم الأخلاق، أي إعداد المرء للحياة داخل المجتمع وهو يشمل المسائل المسلكية، والمقدرة على إيجاد الوجهة السليمة داخل المجتمع، والتحكم بالذات.. إنه الإلمام بديننا الاسلامي الحنيف والإلمام بقوانين الحياة ومعاييرها ودفاع الفرد عن حقوقه وواجباته كمواطن. وهو ينطوي على مسائل الاسرة، وإلى اين يجب التوجه داخل المجتمع طلباً لحل المسائل المعيشية. ونحن نؤكد على تعلم المهنة والأخلاق لأن المدرسة قادرة من حيث المبدأ على القيام بأعباء ذلك، حتى المدرسون سيكسبون خبرة كبيرة في ميدان تدريس المهن المذكورة. وليعذرني القارئ إذا قلت إن تعليم العلوم من رياضيات وفيزياء وكيمياء وأحياء لا تساوي شيئاً أمام تعلم مهنة واحدة لن يضيع بعدها الطالب أبداً بإذن الله.. وهذا الشكل المتقدم من التعليم المهني والتقني التطبيقي هو لوحده سيقضي على كل أشكال البطالة.. وإذا كانت المواد النظرية الجافة (تاريخ، جغرافيا، فيزياء، كيمياء) تشغل حالياً نصف البرنامج المدرسي في مرحلة الثانوية العامة.. فعلينا أن نسأل، لماذا؟ ومن منّا نحن الراشدين حل مسألة من الدرجة الثانية بعدما أصبحنا خارج الجامعة؟! وأريد أن أقول إنه يجب أن تشغل أي مادة دراسية (الرياضيات مثلاً) من سن الطفولة (روضة، ابتدائية، ثانوية وجامعة) نفس المدة التي نحتاج اليها في حياتنا العملية لا أكثر ولا أقل، لأن هذه المواد تنمي التفكير الاستدلالي فقط، الذي يحتاج إليه الانسان المثقف وليس الإنسان الموظف.. وأعتقد أن المعلم، الذي ألزم تلاميذه طيلة أربع سنوات (الثانوية العامة مثلاً) بحفظ المعادلات والعمليات الكيميائية، سيكون في غاية الانزعاج عندما يرى الخريج فوق الرصيف بدون عمل، وسيصطدم عندما يعرف أن الخريج قد نسي وإلى الأبد كل هذه المواد، التي لم يرها أصلاً ثانية، فور مغادرته مقاعد الدراسة.. أما بشأن الجغرافيا فيكفي فيلم علمي واحد يعرض على طلاب الثانوية العامة ليكونوا فكرة عن البلدان والقارات وعن الأقاليم المناخية وعن الرحالة والأسس الاقتصادية للتجارة الداخلية والخارجية.. فوالله إن تعليم الطالب إصلاح أنبوب الماء، والخياطة بالإبرة أفضل له من فصل في كتاب مدرسي نظري كتبه أحد المؤلفين ممن لا يتقنون لغة الكتابة! وربما يسأل سائل: من الذي سيتم قبوله في الجامعات والمعاهد العلمية والعليا في الخارج؟ ومن أين لنا بالمهندسين والمعلمين والرياضيين والفيزيائيين؟ إن هذا برأيي أمر آخر كلياً، ولا يجب أن نخلط بينه وبين أمور المدرسة ومهامها في إعداد الطالب إلى معترك الحياة. وليس من الممكن تكليف وزارة التربية والتعليم به، لأنه ليس في دائرة اختصاصها، إذ إنها يجب أن تهتم بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين السابعة والسادسة عشرة. والوزارة ملزمة بالاهتمام بهم كي يتخرجوا في المدرسة أصحاء، معافين، مهذبين، مثقفين، قادرين على الدخول في المعاهد المهنية المتوسطة أو خوض معترك الحياة، كما أنهم خلال تلك المرحلة الدراسية تكون المدرسة قد كونت لديهم مهنة محددة يراعون أثناء اختيارها مزاياهم الشخصية ورغباتهم وكفاءاتهم.

بعد ذلك - أي بعد المرحلة الاساسية- تتحول الدراسة إلى أيدي مدرسين آخرين، أي إلى لجنة خاصة بالتعليم المهني والفني ومعاهد التعليم المتخصصة المتوسطة والعالية، ثم إلى وزارة التعليم العالي.. ويجب أن يلتحق القسم الأكبر من طلاب الأساسي والثانوي بالمعاهد والمدارس المهنية حيث يتعلمون مهنة معينة، وهنا وفي هذه الحالة يبدأون بتلقي الأسس العلمية، التي سيحتاجون إليها في مهنتهم المقبلة (رياضيات، فيزياء، كيمياء وغيرها) أي أنه علينا أن نحدد ما هو مطلوب من المدرسة الاساسية والمدرسة الثانوية.. ولنترك للمعاهد المهنية (متوسطة وعليا) مسألة إعداد طلبة المستقبل.. ويمكن أن يلتحق بالجامعة نسبة بسيطة من الطلاب بناء على اختبارات تجريها مختلف الكليات. ومن هذه المرحلة بالذات نبدأ الدراسة النظامية للمواد العلمية ومن نقطة الصفر. لأن الطلاب الذين سيصلون إلى هذه المرحلة سيكونون طلاباً موهوبين فعلاً.. أما الطلاب الذين يكون ترتيبهم متأخراً عند الانتهاء من المرحلة الانتقالية (أساسي وثانوي) فسوف يرون أن نجاحاتهم غير كافية وسينسحبون باتجاه المعاهد المهنية دون أن يعانوا من القلق الذي يفت الأعصاب.. وهؤلاء الطلاب لن يضيعوا في متاهات الحياة (البطالة والفقر وعدم امتلاكهم المهن المحددة) إذ سيكون خريج "المعهد المهني" يمتلك مهارة من المهارات التي حتماً ستحثه على العمل والنجاح.

هذا هو الاقتراح الجديد الخاص بنظام تربية وتعليم الشباب بناة مستقبلنا، الذي نتوجه به إلى المسؤولين وإلى الدول المانحة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى