محمد ناصر محمد رُبّ ذكرى

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
كلما أتذكر محمد ناصر محمد الإعلامي البارز والسياسي البارع ينقبض قلبي من الوجع وأنا أتخيله في ذروة تألقه وحضوره الإنساني الدافئ، ولمعة الذكاء في عينيه، يجول داخل الطائرة المغدورة يأخذ بأطراف الحديث مع هذا ويعلق على ذاك، فقد كان صديقاً للجميع ومحباً للجميع، فلا وقت لديه لسفاسف الأمور، لأنه كان دائماً يعمل على مشروع يشغل تفكيره ويملأ وجدانه ويفرغ فيه طاقاته التي كانت تبدو بلا حدود، ولا يمكنني تخيله جالساً على كرسي الطائرة ورابطاً الحزام يحدق في السحب العابرة على فوهة الموت. كانت قوة المبادرة لديه تعمل بسرعة ضوئية وحدس ملهم. وحين كان سفيراً في بيروت كان بمثابة الناطق الرسمي كأنه لم يبارح عدن، فخلال دقائق من وقوع أي حدث لافت تحمل وكالات الأنباء رد فعله بإجابات وتفسيرات «جامعة مانعة»، ولا حاجة بعد لتعليق من أحد إلا أن يكون ترداداً لكلامه. كان قائداً بالفطرة وآسراً بالموهبة ومتقناً لعمله بالممارسة والدأب وقوة الخيال وحين أنشأ وكالة أنباء عدن مطلع السبعينات بدت مؤسسة مختلفة : إدارة بسيطة غير معقدة ولكن بفاعلية ورؤية، وقد استفاد كثيراً من عمله مع وكالة «رويتر» العالمية، وكان يركز على تأهيل الكادر لأنه حجر الزاوية في أي تقدم، ولكم كانت بصيرته نفاذة حين انتقل إلى السلك الدبلوماسي فاختار الصديق محمد عبدالله مخشف ليكون مراسلاً لرويترز، وها هي اليوم قد مضى أكثر من ثلاثين عاماً منذ قضى محمد ناصر شهيداً ضمن مذبحة طائرة الدبلوماسيين، ولا يزال المخشف المراسل المعتمد لرويترز مما يدل على حسن ودقة الاختيار ووفاء التلميذ لمبادئ الأستاذ، ويبدو لي أن سجل المخشف على هذا المدى الزمني الممتد يمكن أن يكون رقماً قياسياً أو على وشك ذلك.

استدعاني محمد ناصر ذات يوم إلى مكتبه وفاجأني بقوله: أنا رشحتك للعمل في السلك الدبلوماسي بالكويت ملحقاً إعلامياً. كان ذلك عام 1971م تقريباً، ولم يكن لدينا سوى تمثيل قنصلي هناك، وبدا لي الأمر على جانب من الغرابة لأنني لم أكن أعمل في الوكالة، ولكنه بلطفه الآسر قال لي بصورة حازمة: ضروري تقبل وبأسرع ما يمكن وقد استحصلت لك جميع الموافقات الضرورية. كان في الأمر سر لم أتبينه وقد بدا التكليف إنقاذياً واستباقياً، وعلى العموم فقد كان الأمر بالنسبة لي هو في الخروج من مناخ خانق إلى مناخ نصف خانق فقد كان الوضع في القنصلية على شاكلة البلد، التقارير «ترشخ» من لا مكان إلى لا مكان «ناب كلب في رأس كلب» ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، ولولا لطف وإنسانية وجمال نفس القنصل عبدالله محمد الهيثمي لكنت قد قضيت كمداً في «طوز» الكويت الذي تبدو «الغوبة» في عدن بجانبه لعب عيال.. قل ياسيدي زارني ذات يوم المرحوم رشاد عبدالرحمن العفيفي وتناول معي فنجان شاي فجرى تلغيم تقرير بأنني أستقبل السلاطين وأتبسط معهم فجرى استدعائي ثم فصلت من العمل ولولا جهود الصديق النبيل ابن الشيخ عثمان «علي واقص» لما كنت أعدت فقد أقام ابن واقص الدنيا ولم يقعدها في مكتب رئيس الوزراء حتى تمت التسوية بأن أخرج من الإعلام نهائياً «وليلتحق بركب المطاريد في حمى عبدالله باذيب»، وقد أبلغني عبدالله حسن العالم قبل أشهر بأن عودتي من الكويت كانت مفاجأة لأن المراهنة كانت على أني سأهرب من هناك.. لا حول الله ولا خطر لي ببال.

لمحمد ناصر محمد الرحمة والرضوان فقد كان رجلاً ولا كل الرجال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى