الصحـافـة تحـت الحصـار

> غسان تويني:

>
غسان تويني
غسان تويني
ينعقد مؤتمركم اليوم في ظل شعار"الصحافة تحت الحصار".واذ لا بد لي بادئ ذي بدء من شكر "اتحاد الصحافة العالمي" "World Association of Newspapers" على عقده المؤتمر هذا في بيروت، عاصمة الحرية والصحافة الحرة في الشرق الأوسط وامتداداته منذ ما يقارب القرنين، وبالتكامل مع إحياء "النهار" ذكرى مرور سنة على اغتيال رئيس مجلس إدارتها النائب الشهيد جبران تويني.

كذلك يترتب عليّ أن أوضح أن المقصود من الشعار ليس فقط الحصار الذي تعانيه الصحافة اللبنانية، التي خسرت سمير قصير قبل جبران، كما كانت قد فقدت سلسلة من روّادها في العصر الحديث أذكر منهم نسيب المتني وفؤاد حداد وكامل مروة وسليم اللوزي ورياض طه ومحمد شقير، فضلاً عن الشهداء الذين عُلّقت مشانقهم أيام الحرب العالمية الأولى في ساحات عدة أبرزها الساحة التي تُكرّم ذكراهم، على بعد أمتار من حيث نجتمع، ومنهم عبدالكريم الخليل وسعيد عقل وجرجي حداد وبترو باولي وعبد الوهاب الانكليزي وفريد الخازن وفيليب الخازن، وكلّهم ممن دافع عن حقوق الانسان والحريات العامة واستقلال لبنان ووحدة العرب. وكانوا يتوجهون الى المشانق هازجين يرددون، وبعضهم ينشد الشعر الذي نظموه ليلاً خلال سجنهم.

ولا يفوتني أخيراً أن أتذكّر أن الشعور بالحصار جعل أحد كبار القادة اللبنانيين المعاصرين يصف العالم الذي نحن منه بالسجن العربي الكبير، تعميماً للظلم الذي يقاسيه الصحافيون في ظلّه، فلا يظنون انهم وحدهم يُظلمون.

والوحدة بين المفهومين، حصار الصحافة وسجن الساسة المعارضين والمواطنين المضطهدين، وحدة عضوية كيانية لأن الصحافة لا تدافع فقط عن حرياتها الذاتية، بل معركتها الكبرى هي من أجل الحريات العامة، والسياسية منها بنوع أخصّ، من أجل حقوق المواطن في حرية الرأي والفكر الحر، كحق الوطن في الحكم الذاتي وتقرير مصيره وبسط سيادته على ترابه بدون أي شكل من أشكال التسلّط الخارجي الذي يأسر الاستقلال، أو "الوصاية" التي تدّعي إحتضانه ولو كانت من ذوي القربى... وهي اذ ذاك الأشد مرارة !

***

من هنا ان لا حرية بدون ديمقراطية، ولا حكم ديمقراطياً دستورياً بدون حريات. أي لا وطن حراً بدون مواطنين أحرار، متحررين من الخوف، متمتعين بالحق في الأمان والسلامة والعدالة... وخصوصاً العدالة، ولو مدوّلة.

ثم ان الحصار على الصحافة ليس من السلطة فحسب، بل كثيراً ما يكون من القوى السياسية المتطرّفة التي لا تحتمل أن تواجهها الصحافة بالنقد والعقلانية والدعوة الى احترام رأي الآخر.

هذا فضلاً عن توق الصحافة، بل صراعها، من أجل التمتّع بالحرية الاقتصادية ومقاومة القامعين وكل محاولات النُظُم والتنظيمات الاستبدادية على أنواعها للتسلّط على الصحافة والإعلام عموماً بتحويل الصحف والإذاعات والتلفزيونات منابر للرأي الحاكم، بدل أن تكون منابر الرأي الحر لتراقب الحاكم وتفضح الطامع بالحكم استئثاراً وتدين فساده وجنوحه عن العدالة وعن مبادئ المدينة الفاضلة وأخصّها مناقبية السلطة في كل مراتبها ومتفرعاتها جذوراً وأصولاً ومجالس وإدارات.

***

ولن أُطيل الشرح حول نظريات يعرفها معظمكم وقد خبرها مثلي وأكثر. حسبي نموذج من "الحصار" يعزّ عليّ ذكره، مجرّد ذكره، من وحي الأزمة التي يعانيها لبنان اليوم، عنيت تحوّل ما يسمّى الإعلام، بصورة عامة، والسمعي - البصري بنوع خاص أداة تسابق في التطرّف على نحو تحريضي يكاد ينقل شكلاً من أشكال الحرب الأهلية الى كل منزل بل الى كل عقل وقلب، فيجد اللبنانيون أنفسهم أسرى للمزايدات التنظيرية التي تدّعي الحوار خدعة، والواقع أنها تحوّله مناظرات بل مبارزات يتمادى خلالها "الحكواتية" (أي أبطال "التوك - شوز") في تجميل مواقعهم ومَسْرَحة دعواتهم استهواءً لغرائز العنف، وكأنهم بذلك يهيّئون المستمعين - المتفرجين لحروب تنتهي تحليلاتهم، القاصرة في غالب الأحيان والجاهلة في بعضها، الى جعلها والمنازعات وكأنّها مقدّرة لا مهرب منها.

فما هو المخرج من حال "الحصار" هذه ؟

معاذ الله أن أدعو الى رقابة السلطة، ولو كان لا يمكن أن نُسقط من حسابنا ضرورة وجود قانون يُحلّل معاقبة الإرهاب الفكري، الأخطر أحياناً من الإرهاب المسلّح.

***

واسمحوا لي أن أتجاوز إطار كلمتي العامة هذه الى الدعوة لأن يطلب مؤتمركم إعلان "ميثاق شرف" إلزامي نمتنع بموجبه عن زرع التطرّف وممارسة الإرهاب الفكري، وخصوصاً تحريم تجاوز قواعد التقيّد بصدقية الأنباء لابتكار أنباء مزعومة، ولا أقول كاذبة، تهذيباً، في سبيل التغرير بالسذج والأقل سذاجة والدعوة ولو بشكل مستتر الى التحارب المجاني بين الأحزاب ولنقُلها صراحة: بين الطوائف الدينية والمذاهب، في حين يكون الله عزّ وجلّ من كلامنا براء !

وربما وجد بعضكم من المناسب طرح هذا الموضوع بشيء من التفصيل وبصورة عملانية في الحلقة التي ستناقش غداً الرقابة الذاتية التي تتقيّد بها من غير طبل وزمر كبرى الصحافات العالمية في الدول الراقية، فتتميّز بالتنافس في الصدق والترفّع والنوعية، وفي موضوعية الأخبار كمرآة تعكس واقعية ما تقدّم بكل وجهات النظر والمواقف، بدل أن تكون متاريس تكتب بشهب من نار تحرق اليابس فتنطلق نيرانه لاحراق الآمال الخضراء وإشعال القلوب والعقول.

***

أيها السادة،

لعلّي أطلت الكلام. فاسمحوا لي أن أختم بفكرة عزيزة على قلب الصحافة التي أنتمي الى جيلها، الصحافة التي كان يطيب لها أن تصف نفسها بالرسولية، أي بانتسابها الى الرسالة، رسالة الحرية التي من أجلها أُنشئت.

الذين سبقوا جيلي الى حمل مشاعل هذه الرسالة - وهم كثيرون، ومن كل الطوائف والمشارب، هاجروا هرباً من الاستعمار العثماني، رغم ادعائه "الخلافة"، ومن لم يهاجر منهم سُجن واضطُهد وشُنق - هاجروا ليؤسسوا في جبل لبنان ثم في المهاجر (من مصر وصولاً الى الأميركتين، مروراً بفرنسا وإيطاليا وسويسرا) صحفاً كانوا ينفقون عليها حتى تحمل رسالتهم، ولم تكن تدّعي ولا تحلم بكسبٍ يجعلها هي تنفق عليهم.

أوّد عند هذا الحد طرح فكرة قد تبدو غريبة مستغربة بل رجعية، في زمن الإلكترونيات!

بعض ما كان يسهّل على أجدادنا وآبائنا الاستشهاد في الصحافة - ولعلّ ذلك ما جعل آخر شهدائنا الحبيب جبران يقبل على مواجهة الاستشهاد باطمئنان الذين كانت قد صارت في قلوبهم، بفعل الايمان، إلفة مع الموت و"الدنيا الآخرة" - كان يتساءل بعضهم عما اذا لم يكن السالفون الى الصحافة الذين قدّسوها هم هؤلاء الذين كان يمكن وصفهم بطلائع الصحافيين، لو كان في زمنهم إعلام، عنيت القديسين الإنجيليين الأربعة، رواة حياة السيد المسيح وأقواله وعجائبه... ثم رواة الاحاديث النبوية الشريفة، على ما صار المجال في ما بعد فسيحاً في مناقشة صحة بعض الروايات.

ولِمَ لا؟

أوليست تلك كبرى قواعد التدقيق الصحفي في صدقية الرواية والأنباء؟

لنتعلّم من رسالتهم، فتهون بعد ذلك الشهادة للصحافة في زمن الحصار.

كلمة ألقيت صباح أمس الاول الاحد في افتتاح مؤتمر «الصحافة تحت الحصار» الذي ينظمه الاتحاد العالمي للصحف و«النهار» في الذكرى الأولى لاستشهاد جبران تويني.

عن «النهار» اللبنانية 11/12/2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى