المتنبي يرثي جدّته (1)

> «الأيام» عبده يحيى الذباني:

> إن من أحسن ما قيل في شعر الرثاء العربي قصيدة قالها شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي (ت:354هـ) في رثاء جدته لأمه، وكان شعر الرثاء في العصر العباسي قد شهد تجديداً في الموضوعات والمضامين حتى وجدنا رثاء الأولاد والأصدقاء والنساء والمدن والخيل والشباب وغير ذلك، بل وجدنا في القرن الخامس الهجري أبا العلاء يرثي البشرية جمعاء في قصيدته الخالدة التي مطلعها:

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوح باك ولا ترنم شادي
كان المتنبى معلقاً بجدته أشد التعلق فهي التي قامت بتربيته وتنشئته بعد أن أصبح يتيماً وقد كان امرأة قوية حازمة حكيمة، عرفت كيف تربي ابنها النابغة الذي صار له شأن كبير في حياته وبعد مماته بل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما قال عنه الأقدمون والمعروف في تاريخ الأدب العربي أن أبا الطيب المتنبى يرجع نسبه إلى (جعفي) وهي بطن من بطون قبيلة من مذحج اليمانية التي سكنت الكوفة، بيد أن الدكتور محمود محمد شاكر في كتابه الشهير عن المتنبى فاجأ الجميع حيث قال إن المتنبي يسترد نسبه بعد ألف عام، حيث نسبه الكاتب إلى العلويين من بني هاشم وأبطل نسبته إلى مذحج اليمانية، وقال فيما قال إن جدته هذه هي التي أوصته وصيتها الذهبية بأن يخفي نسبه الحقيقي حتى يتجنب القتل في زمن كان العلويون فيه مطاردين لاسيما حين يشبهون المتنبي في أنفته وبأسه وطموحه واعتداده بنفسه، والحق أن في كلام الدكتور شاكر كثيراً من المعقول والمنطق بما يتفق مع طبيعة الأشياء، فنفس المتنبى قريبة إلى نفوس السادة من بني هاشم في فخرهم بأفضليتهم واعتدادهم بانفسهم، فهو نفسه القائل:

وإني من قوم كأن نفوسهم

بها أنفٌ أن تسكنَ اللحم والعظما
ثم أن أسباب إخفاء المتنبي لنسبه الحقيقي تبدو معقولة ومنسجمة مع السياق التاريخي فضلاً عن أننا لا نجد المتنبي يفخر بقبيلة (جعفي) ولا بأصله من مذحج مع أن الفخر كان شائعاً في شعره.

أما ما يخص قصيدته الرائعة في رثاء جدته، فالمعروف أن المتنبي قد طوى الأرض طياً كما طوى فنون الشعر وأساليبه ومذاهبه، وضرب في الآفاق كما غاص في أعماق النفس البشرية لقد كان صاحب أسفار لأنه كان صاحب همة وطموح لا حدود لهما، فمن الكوفة إلى بادية الشام ومنها إلى حلب ومن ثم إلى مصر ثم هارباً منها وعائداً إلى بغداد من غير طائرة - طبعاً - ولا سيارة! بل على جواده الحبيب الوفي حيث يقول:

صحبت في الفلوات الوحش منفرداً

حتى تعجّبَ مني الغور والأكم
وعندما لم يطب له المقام في بغداد - بحكم اتساع دائرة الأعداء والحساد من حوله - رمى بنفسه شرقاً إلى بلاد فارس، مع أنه في مطلع حياته قد هجا الأعاجم إذ قال:

وإنما الناس الملوك وما

تصلح عرب ملوكها عجمُ
ومن بلاد فارس أراد العودة إلى الكوفة - مسقط رأسه- بعد أن مل الأسفار وملته، وخذلته الأيام وأجهضت طموحه، أليس هو القائل:

أظمتني الدنيا فلما جئتها

مستسقياً مطرت عليّ مصائبا
[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى