الشعر بين الأصالة والحداثة كالفولاذ بين السندان والمطرقة

> «الأيام» علي محمد يحيى:

>
علي محمد يحيى
علي محمد يحيى
في ضوء متابعة الأديب والصحفي مختار مقطري نشرت في «الأيام» العدد (4334) بتاريخ 21 نوفمبر 2004م حول موقف شعراء الحداثة من التراث، شملت تعقيب الأديب والشاعر الأستاذ مبارك سالمين، فقد سرني عرضه الجميل لرؤيته المتوازنة مثلما هي روحه الجميلة وذوقه المهذب في انتقاء ألفاظه، فإليه أوجه التحية.

إنني لا أخفي مدى عشقي للشعر العمودي - القديم - واهتمامي بدراسته والغوص في بحور كنوزه. غير أن ذلك لا يعني أن من يحب الشعر القديم ويهتم به لا بد أن ينفر من الشعر الجديد - شعر الحداثة - ويهمله، كما اعتدنا أن نسمع من البعض بأن من يعشق الجديد الحداثي لا بد له من أن يزدري الشعر القديم العمودي، وتمُجُّه نفسه. وهذا يجعلنا نعاود التأمل في نقائصنا الفكرية والجمالية الشائعة التي تنادي بضرورة غلبة أحد هذين الاعتقادين على الآخر. وكلاهما في اعتقادي وتقديري الشخصي لا بد أن تتسع لهما صدورنا لأنهما إنما هاجس واحد. إلا أن الواقع يسفر عن نتيجة معاكسة، وهي أننا نجد الكثير ممن يحبون الشعر القديم ويجلونه ويقدرون مدى إتقانه وامتيازه حسب قناعتهم، يخافون عليه من الشعر الحديث خوفاً جماً، فيجعلهم لا يفتحون له قلوبهم ولا يوسعون من عقولهم وأذواقهم حتى يستقبلون قيمه الجديدة، الفكرية والجمالية، ويقدرونها حق قدرها هي أيضاً، إذ أنهم يخشون خشية عظيمة من أن هذه (الموجة) كما يصفونها قد طال أمدها بعد أن ظنوه قصيراً قد تقضي أو هي كادت على ما جُبلنا عليه في أن نقدر القيم الكلاسيكية، ونتذوق ما بها من جمال خاص، فيه من الروعة والإثارة والجمال.

ورغم أن هذه (الموجة) لم تنته كما كانوا يتصورون، وكذلك الخوف الذي لديهم قد جعلهم يتوجسون من بعض (شعراء الحداثة) المعادين للأصالة ممن يجهلون جهلاً سحيقاً الشعر القديم وهم في واقع الأمر نفر قليل من ذوي الثقافات الضحلة، وينطبق عليهم المثل القائل «من جهل بالشيء عاداه».

ولكنني أهمس في المقام ذاته في آذان الأصوليين في الشعر بأن الأسلوب الأمثل للمحافظة على شعرنا القديم هو القبول بالجديد ، فالتجديد هو الذي يحتفظ من القديم بعناصره الحيوية التي تستحق البقاء، فيجدد حيوتها، ويمكنها من اتخاذ أشكال جديدة تلائم تغير طرائق التفكير وأساليب الاستجابة الفنية.

والتجديد هو الذي يغذيها بعناصر جديدة تجدد إخصابها وتواصل الجدة فيها، وتزيدها اغتناءً واتساعاً، فتسمح لها بمعرفة ما يطرأ على الحياة الدائمة التغيُّر، ومستجدات التجارب والمواقف والأفكار والقيم، وبذلك يسمح لها باستمرارية نموها. أما بقاء الشعر القديم كالأطلال أو كالآثار المخلدة فإنه يوقف التواصل معه ويقطعه.

وكذلك الشعر الجديد - شعر الحداثة - فإنه إذا لم يكن حياً متطوراً، والتطور سمة من سمات الحيوية، انقطعت صلتنا شيئاً فشيئاً بأدبنا وشعرنا القديم. لأننا إذا لم نحافظ على كينونتنا المستمرة ازداد أدبنا القديم بما فيه الشعر ابتعاداً عنا، وقد يصير غريباً كما هو بالنسبة لنا معظم أدب الغرب.

لذلك فإن لغتنا مستمرة في التغيُّر، وطريقتنا في الحياة تتغير تحت ضغط المتغيرات المادية في بيئتنا بمختلف أنواع هذه المتغيرات. وما لم يوجد بيننا من الأدباء والمثقفين من يستطيع الجمع بين الحاسية الممتازة والمقدرة الممتازة على امتلاك زمام الكلمات، فإن التدهور سيصل إلى مقدرتنا نحن، لا على التعبير فحسب بل على الشعور بأي نوع من المشاعر، ما عدا تلك التي هي أشدها فجاجة.

كما أن الشعراء الأقدمين لا فائدة فيهم لنا البتة، ما لم يكن لدينا شعراء أحياء أيضاً، بل وتظل أهميتهم موقوفة على أهل زمانهم. فالأدباء والشعراء الأحياء هم الذين يبعثون تراث الموتى حياً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى