حلم يمكن تحويله رؤيا

> كلوفيس مقصود:

>
كلوفيس مقصود
كلوفيس مقصود
في مستهل سنة 2007 يميل الانسان في مناسبة كهذه الى اجراء محاسبة وتقويم لما قد تحمله السنة الجديدة لاوضاع امتنا العربية ولاحتمالات خروجها من الازمات المتفاقمة في الكثير من اقطارها وتاليا محاولة استشراف وسائل الخروج من المصائر التي تكبّل طاقاتنا والمعضلات التي تمعن في التكاثر والحؤول دون وضوح الرؤية واستحضار الحيوية الكامنة التي تعاني الكثير من الكبت والقمع احيانا. ولعل الكثير ممن يتوخون اختراقا فكريا لحال القنوط السائدة، وهم مؤهلون لهذه المهمة، يجدون انفسهم في حال مواجهة مع رغبة تلح على اجترار اساليب لمعالجة الشؤون المصيرية باستسلام لواقعية خانقة لا تجد امكانا لأي تغيير الا من خلال المراهنة او الارتهان لما يتلاءم مع سياسات القوى الدولية والاقليمية.

وعلى رغم ان ثمة تغييرات حصلت في مرجعيات دولية واقليمية، وان هذه مقبلة على تعديلات في سياساتها ومواقفها وسلوكياتها في المنطقة المسماة "الشرق الاوسط"، الا ان الطواقم الحاكمة والمتحكمة تبدو كأنها متحسرة وفي حال انبهار تفرض عليها توقع "اشارات" واقتراحات تجعل تجاوبها - او استجابتها - تعريفا لواقعية مطلوبة. وفي نظر هذه الطواقم الحاكمة والمتحكمة، تشكل الاستجابة بالنسبة اليها ضمانا لبقائها، كما تضمن ما قد يسمى المصالح المشتركة لمن يعطي الاشارات ويتلقفها على السواء.

وهذا مثلا يفسر الى حد كبير - وخصوصا بعد هجمات 11 ايلول 2001 - ان كل المشاريع التي جاءت من الادارة الاميركية مثل "نشر الديموقراطية" و"الشرق الاوسط الكبير" و"الشرق الاوسط الجديد"، ومن بعدها "خريطة الطريق" والمفاهيم المبهمة لمشروع "الدولتين" اسرائيل وفلسطين - كل هذه المشاريع والاقتراحات اصطدمت بواقع الممانعة في شتى تجلياتها من شعوب الامة العربية، او من تنامي المعارضات داخل الولايات المتحدة نفسها مما ادى الى نجاح الديموقراطيين في الاستيلاء على السلطة الاشتراعية، وكذلك انتقال السلطة في اسبانيا وايطاليا الى قوى عارضت غزو العراق وغيرها من تعبيرات الاستياء من سياسات الاملاء التي مارسها محور بوش - بلير الذي ادى الى تهميش دور طوني بلير وظهور احتمالات الردع لتمادي الرئيس بوش في الاستمرار في حال الانكار.

ازاء هذه المستجدات ظلت الطواقم الحاكمة والمتحكمة تجتر ما تعودته من تلقف للاشارات والتكيف معها من غير ان تأخذ في الاعتبار جدية الفرص المتاحة لتأكيد استقلالية ارادتها، وان تتوجه الى مزيد من التنسيق - هل نجرؤ على ان نقول التوحيد؟ - في مواقفها وجعل العلاقات العربية - العربية حاسمة في رجحانها على بقية اشكال العلاقات مع الغير.

السؤال الذي يطرح نفسه في بداية السنة الجديدة هو: لماذا هذه الطواقم الحاكمة والمتحكمة ظلت عاجزة عن استيعاب حقيقة ان التنسيق في ما بينها على الاقل يوفر لها مناعة اكثر بكثير من بقاء حال التفكك التي يجعلها عرضة للتجاذبات والتناقضات الدولية والاقليمية التي تسهل استباحة ما نصر على انه حقوق مشروعة لشعوبنا، كما هو حاصل على نحو جلي في كل من فلسطين والعراق - والآن في الصومال؟ ويظهر سهولة الاستباحة ما نراه في فلسطين المحتلة، وخصوصا انه اواخر 2007 تكون قد مرت على قرار التقسيم 60 سنة. الا يعني ذلك انه بعد مرور 60 سنة على قرار التقسيم الجائر نجد ان فلسطين اليوم تختزل المأساة، لكنها تختزل ايضا - وفي الاهمية ذاتها - معاناة امة فاقدة البوصلة، وشعوب تفتش عن مرجعية موثوق بها لحيوية مقتدرة؟

قد يكون مسموحا في بداية السنة ان نجازف بالتعبير عن آراء قد تبدو بعيدة عن المتداول المقبول، وفي بعض الاحيان يعتقدها البعض غريبة وتاليا تطفلا او احيانا تشويشا معرقلا للخطاب السياسي القائم. ومع وعيي ان ما سأسجله سوف يعتبر في احسن الحالات حلما غير قابل للانجاز او العودة الى لغة "خشبية" تدل على تجاهل تاريخ ما بعد خمسينات القرن الماضي او جهل لها. وفي كلا الحالين سأغامر وسأبدي ما اعتقده احد اسباب ما آلت اليه الحال العربية. لذا سأحاول النفاذ الى تفكيك احد الاسباب الرئيسية في نظري التي ساهمت في ما نحن فيه من تبعثر واحباط وتخل عن الطموح الممكن. واذا تبلور لدينا مفهوم دقيق للاجابة عن"من نحن" ففي امكاننا استعادة استقامة الانتماء ومعنى الهوية ووحدة المصير.

****

في الجوهر ثمة محاولة فكرية مستمرة لدفع مفهوم الامة العربية نحو التلاشي. فالامة تعني وحدة مصير الاوطان التي تنتمي اليها وتالياً تكونها. ذلك ان مفهوم الامة يفترض مسؤولية الزامية تعمل على انجاز وحدة او اتحاد. مفهوم الامة يفترض برنامجاً شاملاً يتصدى لمعالجة التحديات المعوقة لمستقبل الامة ومصيرها.

ولكن ابدال مفهوم الامة بمفهوم "العالم العربي" ومفهوم "العالم" في هذا المجال يكتفي بتعاطف مبهم، واذا ترجم عملياً فيؤدي الى تأييد متقطع لا ضمان لتواصله. وفي مفهوم "العالم العربي" الهوية تصير مكتفية بالاعلان وبكونها فضفاضة، وفي هذا السياق يصير العالم العربي هو "العربي" في حين ان عروبة المواطن تصير موضع اختبار أو "تفريخ" هويات بديلة. وما عانته الشعوب العربية طوال هذا الوقت ليس سوى رجحان لـ"العالم" على الامة من اسقاطات وتداعيات. وعند وضوح ثنائية العالم والامة ننفذ الى احدى خلفيات تفاقم، وبالاحرى استفحال، تعقيدات الازمات التي هددت، ولا تزال، مصائر كثير من الاوطان العربية.

صحيح ان الرجحان الحالي لمفهوم "العالم" على مفهوم "الامة" له ظروف تاريخية ادت الى تجارب قطرية متباينة ومختلفة وتالياً بات اختلاف ظروف كل منها واقعاً موضوعياً افرز النظام العربي الحالي. ولكن على رغم ان هذا الواقع الموضوعي والتاريخي، كان دوماً يربط ويجمع بين الجماهير العربية، حائلاً دون الاستسلام لحتمية بقاء السيادة مطلقة وتالياً عرضة، كما اشرنا وكما حصل مراراً، للانتهاك والاستباحة.

ان مفهوم "العالم العربي" يجيز، كواقع مفروض، اجتزاء هويات طائفية وعرقية وقبلية ومذهبية تضعف حتى الهويات الوطنية، فكم بالحري القومية. ولسنا في حاجة الى الاستشهاد بما هو حاصل في هذا المضمار علناً كما في العراق والصومال وفي التركيبة الطائفية المقننة في لبنان وغيرها، وكيف استطاعت هذه المنتجات التقسيمية ان تهدر صدقية مفهوم المواطنة التي تتجاوز وتتخطى الولاءات المذهبية بمختلف تعبيراتها وتجعل المواطنة العربية في الامة حقاً لكل من اختار الانتماء طوعاً الى دولة عربية. هذا بدوره يجب ان يحسم كون العروبة هوية تتجاوز - لانها مواطنة - مفهوم العرق والمذهب وتحتفل بالتنوع ضمن الوحدة. فالامة تفترض مناعة الوحدة الوطنية والمجتمعية، والتنوع العرقي والديني والمذهبي هي روافد تثري التعددية الكامنة في الهوية المركزية للامة. وهكذا يتم انعتاق الامة من المكبلات التي ربطت مفهومها بسياسات الالحاق والنظم الشمولية. ان مفهوم المواطنة مرتبط بالانفتاح والمشاركة بما يشكل الرد الحضاري على التقوقع والانزواء وتآكل النبض وتحويل العالم العربي ساحة يملأ فراغها الغير المتربص بآمالنا وطموحاتنا وحقوقنا. وقد اثبتت ذلك تجربة التقسيم منذ 60 سنة بأرضنا وبمستقبل كل المواطنين في أرجاء وطنهم الكبير.

قد يقال ان الوحدة - او الاتحاد لا فرق - حلم. فيما البديل الحالي مسلسل من الكوابيس. الحلم يمكن تحويله رؤيا... واذا توافرت البوصلة قد تنجز ما يبدو آنياً مستحيلاً.

واذا اعتبرتني، أيها القارئ، خارج الزمان، ارجو ان نثبت ان كون الاحلام مغيبة لا يعني انها غائبة. لكن صيرورتها حقيقة يجب ان تبقى في حيز الامكان... وإلا فان قرار التقسيم يتحول قرار الغاء.

لذا علينا الا نتخلى عن الهوية... والتفاؤل... وصيرورة الحلم.

المدير السابق لمكتب الجامعة العربية بواشنطن.

عن «النهار» اللبنانية 9 يناير 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى