عوض أحمد والطاؤوس

> «الأيام» مختار مقطري:

>
الفنان عوض أحمد
الفنان عوض أحمد
عوض أحمد.. أحد صناع النهضة الفنية بأبين منذ خواتم حقبة الخمسينيات من القرن الماضي.. قامة فنية سامقة جذورها ضاربة في عمق الأرض وقمتها تعانق السحاب.. لا تنحني ولا تنكسر ولا ترتد عن ثوابتها بارتداد الزمان بل تبقى ثابتة إلى أن يعتدل المناخ وتأتلق من جديد أشعة الشمس وينقشع الدخان وتسكن عواصف الملح والغبار، لتثمر وتغدق وتهب الجميل والأجمل.. الراقي والأرقى.. الباقي والأبقى وتحيل العذب إلى سحر مبين.. كثافة من الألق والضوء وخيوط الحرير شفاه تتلو سفر الجمال المشع عشقاً وشوقاً، وفاءاً وصداً، لقاءاً وهجراً.. وعتاباً وغيرةً مشروعة وصفحاً جميلاً باقياً على الود الجميل.

عوض أحمد.. واحد من العشاق الكبار والمدهشين الكبار والمجانين الكبار.. أداؤه إحساس فقه باللحن الغافي في حضن كل معنى جميل.. ابتسامة أنيقة على شفتيه ومشعة في عينيه بالحب والرضا والحنان كابتسامة واهب بسخاء أقصى ما يرجوه بهجة الموهوب فرحاً بهديته.. لا عطاء مستعاد أو منحةً بخيلةً.. لأنه يهدي إذا أهدى ومضات الفن الجميل..عوض أحمد صوت الحب والأشواق والأماني والحزن الرائع ورفات الأمل الوليد وبشرى بآيات تمسح الهم الثقيل.

صوت عوض أحمد أقداح من الخمر الحلال لا تسكر.. أدمنّا ارتشافها و ما فتئت تطهّر نفوسنا وتفتّق أحلامنا وتبرعم أمانينا.. نشربها في الصباح فتعدل المزاج ويخضر استبشارنا بيوم جميل.. وفي المساء نرش بها صبواتنا لنحلم بالخل الأمين.. أكواب من القهوة المزغول ونبيذ التمر والشعير احتسيناها من نبرات صوته السلسبيل، وما زال صوته مترعا بعطر أبين وبخور لحج وحلاوة الصوري بعدن يستظل في فيحائه كل عاشق في اليمن حج إلى معبد الفن فتاه في صحراء البلادة والسقم الفني، مطارداً بعاصفة هوجاء من أصوات نكرة ونغمات مهدورة يدعي مدمنو فحيح الأفاعي وغثاء الحمير أنها الفن وأنها الغناء وكلاهما بريء من هذا القهر الغنائي والاستبداد الفني ومحاولات إلغاء ذاكرة عشاق الحياة وتلويث آذانهم بالرغاء والقصدير.

صوت عوض أحمد أنفاس عاشِقَين حرّى.. ضمهما لقاء بعد نأي وحرمان واصطبار في مكان يبعد عن عيني رقيب ولوم كاشح ووعيد عاذل لم يجرب الحب، فجرت أنفاسهما في صوت عوض أحمد باللهفة الذائبة والخفوق الملحون وآهات الصدور المعبأة بالشوق والحنين، وتمتمات الثناء على الدهر.. وبرنات القبل تعزفها الشفاه.. ووشوشات السكر في الصحو والصحو في السكر اليقظان في نعاس العيون الجميلة وفتور الجفون وخدر الأنامل.. بالدعوات الصادقة بالمغفرة.. بالخجل المراهق وفوران الشباب وغنج الغيد ولوعة الابن اللهفان لحضن الأم الحنون.. بكل لغات العشاق القديمة والجديدة.. تدونها أنفاس عاشقين في صوت عوض أحمد. فأين من عوض أحمد ذلك المغني الطاؤوس.. تاريخاً وعطاءً وموهبة وتواضعاً ورقة الدان الأصيل؟!

عوض أحمد موهبة فطرت على اكتساب كل ماهو جميل في الفن وفي الحياة..كان يمكن أن تضيع هباء لو لم يرع صاحبها فيها فضل الله.. شرب الفن من منهل أساتذة كبار لم يتعهدوا صوته بالرعاية والتدريب لولا اكتشافهم في نبراته العذبة كنزاً ثميناً.. فتتلمذ على أيديهم ولا يزال اليوم يذكر فضلهم بالثناء والتقدير.. لا كذلك المغني الطاؤوس الذي تنكر لأساتذته وتحول إلى أستاذ بلا مؤهلات، لأنه التلميذ الخائب الذي فشل في الاستفادة من الأساتذة ليرتدي ثوب أستاذ مزعوم مؤهلاته الغرور والنرجسية والعقد النفسية وادعاء مواهب أخرى فشل فيها كلها.. عوض أحمد صوت جميل.. تعهده صاحبه بالتدريب والمران ولأجله ضحى كثيراً أو استراح كثيراً وغنى كثيراً وصمت كثيراً.. ليرتبط صوته وأغانيه بوجدان الناس مترجماً لمشاعرهم وأحاسيسهم وأفراحهم وأحزانهم.. وبتاريخ بدأ منذ نحو نصف قرن مجسداً لملامحه ووثباته وإشراقاته في مراحله الفنية المختلفة والمتنوعة من الأغنية الشعبية انطلاقاً للأغنية الطربية.. ومن الدان العفوي إلى الصنعة في الدان وإعادة تجديد التراث.. مشوار طويل.. شاق وممتع.. له إضاءات وله نكسات أيضاً.. حتى في مرحلة تأميم الفن وتلحين الشعارات ولجم الغناء الفردي.. ظل عوض أحمد واقفاً بثبات متشبثا بلونه وأغنيته الجميلة، فمهما بلغت حدة المنع إلا أنه لا يقدر أن يحول بين مطرب وبين جمهوره ومحبيه.. وعوض أحمد مجرد مطرب مطرب كبير.. لم يفشل كمطرب ليدعي وهماً مريضاً أنه ملحن وشاعر وكاتب.. وهو بذلك ليس كذلك المغني الطاؤوس الذي لم يصنع له تاريخاً فنياً.. وله منا ألف عذر وعذر لو اعترف بذلك، لكنه حاول مدفوعاً بغروره القفز فوق تاريخ عوض أحمد فتعثر.. فابتسم عوض ولم يعاتب وكتم السهم في كبده، وغسل جرحه بالصفح والغفران لأنه فنان والفنان الحقيقي قادر على أن يسامح دائماً.. ومضى ذلك المغني الطاؤوس ليصنع له تاريخاً من العدم، مستعيناً بأقلام النفاق و شهود الزور وجوقة التطبيل، بدلاً من أن يأتلف قلب متلق واحد بأغنية جميلة.

وإذا كان عوض أحمد اليوم بعيداً عن قنوات التواصل بينه وبين جمهوره، فحسبه رصيده الفني الكبير المترع بكل أغنية جميلة، حسبه هذا مؤقتاً في هذا الزمن الرديء الذي يكره الجمال ويسد منافذ النور ويحجب شمس الفن كي لا تكشف أشعتها الدافئة عن إصابته المزمنة والمميتة بالسرطان الفني.

كتب هذا المقال بمناسبة تكريم الفنان القدير عوض أحمد في منتدى خورمكسر الثقافي بتاريخ 28/12/2006م وتعذر تقديمه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى