لوحة فاتنة

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
كنا نجوس في حديقة «بتايا» من أرض تايلاند الوادعة الوديعة، أنا وصديقي سالم صالح محمد وأخوه علي، ورأينا من أسرار الحياة عجباً، ففي المدخل صادفنا رتلا من الببغاوات الضخمة، مطلقة السراح، ترتاح على إفريز بجانب البوابة، وسرعان ما أنست إلينا كأنها تعرفنا منذ زمن بعيد، هكذا الإنسان إذا لم يكن مؤذياً فإن كل ما في الكون مسخر له، وقد مددنا أيدينا إليها فاستجابت دون خوف أو تشنج وصعدت من أيدينا إلى أكتافنا فهي تحب الشرف العالية كأي كائن أصيل لا يحب العيش بين الحفر، وقد شغل علي صالح كاميراته التي تحتفظ بذخيرة الرحلة، وحين تكل الذاكرة وتتساقط منها الذكريات فإن الصورة والكلمة المكتوبة يتبقيان، هكذا اتفقنا لأنني بصدد إعداد كتاب عن الأسفار، وهو الأدب الذي يجتذب الصغار قبل الكبار، وقد أبلى فيه العرب البلاء الحسن منذ المسعودي والبيروني وابن بطوطة وغيرهم. كما أن علي يتهيأ لمعرض فوتوغرافي يعرض مختارات ثلاثين عاماً من التصوير.

وفيما كنا منشغلين بالببغاوات إذا بقطيع من القردة الضخمة جميعه من الحوامل يدلف إلى داخل حظيرة، وكانت القردة تنظر إلينا نظرات تقطع القلب كأنما تقول: انظروا كم أعاني من الحمل وكان بعضها كما يبدو على وشك الوضع، وتعرفون كم تضطر القردة الحامل إلى حرمان نفسها من اللهو وتسلق الأشجار والتمرجح بين الأغصان، وهي كما يقال أعظم بهلوان على ظهر الأرض، وقد عقب سالم صالح على تعليقي هذا بقوله : هناك ما يفوقها في بهلوانيته وانتقاله بخفة ضوئية من مزاج إلى مزاج ومن أرجوحة إلى أنشوطة ومن زمان إلى زمان، قلت : وما هو، قال : عقل الإنسان.. فكرة تحتاج إلى التأمل {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}. لاحظت أن القردة الحوامل من الوزن الثقيل الأقرب إلى «الغوريلا» كانت تمد أيديها إلى المرافقين من البشر لمساعدتها على السير، على الرغم من قصر المسافة، ربما كان ذلك تطلباً للحنان، الذي تحتاجه حتى الحوامل من البشر : كلمة دافئة، أو لمسة حانية، أو كتف موطأ.

يقول: اتكئ عليّ فلست وحدك:

ودعتها وبودي لو يودعني صفو الحياة وإني لا أودعها

أتُرى كانت حبيبة ابن زريق البغدادي حاملاً، وهو يتهيأ لجوابة الآفاق بحثاً عن رزق ، فأمّلها بالبعيد المستحيل وحرمها من القريب المتاح. (يالقسوة الحياة، وقلة لذاذات العيش).

حق الحياة مكفول للجميع في حديقة «بتايا» ولكن كلٌّ ميسر لما خلق له، ولم أنس ولن أنسى منظر أنثى الفيل الضخمة التي تنقل الزوار على ظهرها على امتداد ساعات عمل الحديقة، معنى ذلك أنها تأكل عيشها من عرق جبينها ما دامت قد انضمت إلى عالم البشر مواطنة كادحة من الدرجة الثانية، وما وقر في ذاكرتي ولامس وجداني هو أنها ترفض العمل ولوكان دون ذلك أهوال إذا لم يكن وليدها إلى جانبها فيربطونه إلى بنيانها الضخم ويسعيان سوية فيما شآبيب الرحمة والمحبة تتنزلان عليه من عينيها الضخمتين وقد تَعْثَر بأي شيء إلا بوليدها ذاك الذي تشعر أنه فرحان جذل وهو يخبّ جنب أقدامها، وقد تلكّأت في طريقي غفلة وتعباً حتى خاف علي رفيقيّ أن أدهس ، ولكن تلك الأم دفعتني بعيداً عن طريقها بكل رقة وحنان كأنما بقفاز مخملي، ربما خشيت أن يتعثر وليدها بي فاستبقت له المهاد، وربما فاض حنانها فنلت نصيبي منه: شكراً في الحالين.

وقد أنشأوا جسراً للمشاة يلتف على جانب واسع جداً من الحديقة فيغني عن السير المُتوّه في جناتها الملتفة ، وحيثما كانت هناك أشجار معمرة في طريق الجسر أحدثوا لها فتحات في الجسر لتتواصل مع سماواتها، إنه كُفْلان حق الحياة . وأذكر أن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله قد ربط مهندساً زراعياً إلى جذع شجرة استأصلها لأنها كما قال مريضة، فقال له : ألا تعالجها، ألا تمهلها، كيف تحرمها حق الحياة؟ وكان ذلك درساً بليغاً لمن يطلقون رصاص الرحمة دون تقوى.

الجنائنيون مزارعون في أثواب تشكيليين، ولذلك فإن الحديقة لوحة طبيعية فاتنة، قال عنها أخي سالم صالح : إنها غذاء الروح الذي نفتقده كثيراً ، بس هذا يا أباصلاح، إن الفقدان هو قاعدة حياتنا، وما عداه رذاذ في صحراء قاحلة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى