بين الواقع المستجد و«المستجد المحتمل»

> كلوفيس مقصود:

>
كلوفيس مقصود
كلوفيس مقصود
يبدو انه لم يعد في الامكان فصل فلسطين والعراق ولبنان بعضها عن البعض، نظرا الى التداخل بين ازمات هذه الدول الثلاث مع اختلاف ظروفها وتباين اسبابها ودرجة التفاقم في كل من معضلاتها. كذلك لم يعد ممكنا التركيز بالقدر المطلوب على معالجة كل منها على حدة. لذلك فان التحكم بمسيرة هذه الازمات صار من سلطة - لا من صلاحية - القوى الاقليمية والدولية التي تدير التدهور الحاصل في الدول الثلاث الامر الذي يجعلها ساحات لتصفية حسابات الغير، إما مواجهات قائمة ومحتملة وإما تسويات وتفاهمات قائمة او محتملة. وهذا ما اشرنا اليه تكرارا في غياب الحضور المركزي للعرب، كجامعة او مؤسسات او حتى "لجنة من حكماء" قادرة على درس الخيارات والبدائل المتاحة وتاليا تقديم اقتراحات عملية تستهدف اخراج هذه الدول من التجاذبات الحادة التي تهدد نسيجها الاجتماعي ومناعة الوحدة الوطنية فيها فضلا عن استقلال اراداتها في تقرير مصائرها.

كما ان استباحة الوحدة الوطنية لكل من هذه الاقطار الثلاثة ناتج من النقص الفادح والمتفاقم في الحالة القومية.

مساء اليوم يلقي الرئيس جورج بوش الخطاب التقليدي عن "حال الاتحاد" امام مجلسي النواب والشيوخ، في حضور اعضاء المحكمة العليا واعضاء الحكومة اضافة الى السلك الديبلوماسي من ممثلي المجتمع المدني. وعلى رغم ان الخطاب سيتناول الكثير من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية وغيرها من القضايا المطلبية الملحة والتي بادرت الاكثرية في الكونغرس الى استصدار قوانين لمعالجتها في الساعات المئة الاولى من تسلم نانسي بيلوسي رئاسة مجلس النواب، الا ان الموضوع الرئيسي في خطاب الرئيس بوش سيكون تداعيات مغامرات ادارته في العراق. وسيكون الشأن الاهم في تحديد مسيرة ادارته في السنتين المتبقيتين من رئاسته.

ولعل من سوء الحظ ان خطاب الرئيس بوش يجيء بعد مرور يوم واحد على سقوط 25 قتيلاً من الجنود الاميركيين في العراق، مما يعزز تنامي المعارضة الداخلية للحرب كما يبرر الاعتراض الشديد على خطة بوش الاستراتيجية التي تقضي بارسال اكثر من عشرين الف جندي اضافي الى العراق.

وينتظر ان تتقدم الأكثرية الديموقراطية في اليوم التالي مع عدد من الشيوخ الجمهوريين بمشروع قرار يندد بخطة بوش في العراق. ومع ان القرار ليس ملزماً، فانه يمهد لاجراءات سياسية ومالية قادرة على فرض مراجعة جذرية لاسباب اخفاقات السياسة الاميركية في العراق، وتالياً في المنطقة.

وما هو اهم ان الاكثرية سوف تفعل صلاحياتها في التحقيق في ما هو حاصل الآن بحيث يطول الجذور والاسباب التي دفعت ادارة واشنطن الى تجاوز مجلس الامن وعدم انتظار نتائج تقارير لجان التحقيق التابعة للامم المتحدة في امتلاك العراق اسلحة دمار شامل والتفرد مع بريطانيا في غزو العراق. وهذا بدوره سوف يلقي اضواء على الدور التخريبي للمحافظين الجدد الذي اتاح لهم عبر محور تشيني - رامسفيلد التمكن من مفاصل صنع القرار، الامر الذي ادى الى انخفاض شعبية ادارة الرئيس بوش الى اقل من 30 في المئة، مما يشكل طعناً في شرعية الرئيس والحرب معاً.

لذا فان المساءلة المتوقعة سوف تؤول بالضرورة الى بدء عملية اعادة نظر في كثير من اوجه السياسة المسماة "شرق اوسطية" للولايات المتحدة.

ونشير هنا الى وصف "الواقع المستجد" في السياسة الاميركية لكونها تدفع - او عليها ان تدفع - دول المنطقة للتهيؤ للانعتاق تدريجاً من قبضة معادلة ارتهان المصائر العربية - وخصوصاً تلك المعنية بالعراق وفلسطين ولبنان - للتنافس او للنزاعات الدولية وتجلياتها الاقليمية وتالياً انعكاساتها السلبية على الاوضاع والحالات السياسية في الاقطار المعنية.

من ذلك زيارة وزيرة الخارجية الاميركية السيدة كوندوليزا رايس للمنطقة بغية تسويق الخطة الاستراتيجية للرئيس بوش في العراق، وقد سعت الى انتزاع موافقة عربية ما عليها دعماً للادارة الاميركية في كبح معارضة الكونغرس.

كما عملت على ترسيخ واقع الانقسام في الصف العربي من خلال حصر اجتماعاتها بأعضاء مجلس التعاون الخليجي مضيفة اليهم من اعتبرتهم "دولاً معتدلة" او بالاحرى حكومات معتدلة لأن لكل من مصر والاردن علاقات ديبلوماسية مباشرة مع اسرائيل، وهو الشرط الاساسي لمنحهما صفة الاعتدال! ونظرا الى كون "حلف الاعتدال العربي" يشكل تحديا واضحا لمؤسسة الجامعة العربية، أو حتى بديلا موقتا منها، فان الموافقة الخجولة لـ"المعتدلين" على مشروع بوش في العراق كان يجب أن يكون أكثر احاطة بما سميناه "المستجد المحتمل" في السياسات والاستراتيجيات الاميركية في المنطقة، والتي تشمل سيطرة الاكثرية الديموقراطية في الكونغرس والنفوذ الممكن لاقتراحات بايكر - هاميلتون التي أهملها الرئيس بوش والتي شكلت بدورها عنصر جذب لعدد متزايد من الاقلية الجمهورية في الكونغرس.

صحيح ان الرئيس بوش الذي يستطيع الاستمرار في تنفيذ سياساته من غير أن يأخذ في الاعتبار عوامل "المستجد المحتمل"، الا ان هذا الموقف المعاند من شأنه في مرحلة لاحقة، أن يصطدم بمقاومة تعيد الى الاذهان ما حصل لادارة الرئيس ليندون جونسون في فيتنام.

لذا، علينا ان ننظر الى حال التشرذم الدموي في العراق والانتظار بين السلطة (فتح) والحكومة (حماس) في فلسطين، والعناد المتبادل بين الحكومة والمعارضة في لبنان، انها، بنسب متفاوتة انعكاس للشرخ القائم في الحالة العربية ولتداعيات الغياب العربي الراهن عن الحضور الفاعل في الازمات التي تهدر فرص معالجة النقوص وتاليا تفرّط بوعي أو بلاوعي في حقوق شعوبها في تقرير مصائرها وارساء قواعد نهضتها ونموها. واذا نفذنا الى العلاقة الجدلية القائمة بين المراهنات على الغير في تعاملنا مع قضايانا الوطنية، ناهيك بالقضايا القومية، يتبيّن لنا بشكل أوضح كيف تؤثر تباينات الغير ونزاعاته في أوطاننا على وتيرة محاولات انجاز الوحدات الوطنية في كل من مثلث العراق وفلسطين والى حد أقل لبنان.

ففي العراق يكاد احتدام النزاعات الطائفية والخسائر البشرية والمادية والمعنوية، يدمران احتمالات عودة الوحدة الوطنية. كما ان تحول الحالة الفلسطينية الى استقطاب يمهد لتقزيم قضية فلسطين إن لم يكن لالغائها كقضية محورية وكمطلب وجداني. كما ان ما هو قائم اليوم في لبنان من تبلور لثنائية تفرّط بعناصر الاحتضان الدولي من جهة وبالانجاز المهم والتاريخي الى حد ما في ما تعانيه اسرائيل من تناقضات في صميم كيانها، كل هذه العوامل تمعن في تعميق الهوة بين الطرفين مما يجعل الحكم استئثاراً والمعارضة تمرداً.

ففي حين ان الواقع في كل من الحالات الثلاث يشكل حقيقة قائمة مفادها انه لن يستطيع أي فريق أو فئة داخل الاطار الوطني تستطيع الغاء الآخر، فإن ادراك هذه الحقيقة يمهد للخروج من المآزق التي نحن فيها. وإن "المستجد المحتمل" في الولايات المتحدة وايران وغيرهما يشكل فرصة متاحة ليتخذ العرب مجتمعين الخطوات التي تؤدي الى "المستجد المحتمل" في اوضاعهم الوطنية والقومية ولاستعادة قدراتهم الجماعية على توفير المناعة لامتهم والوحدة للاوطان التي تعاني الانفصام والتفتيت العبثي الذي نشاهد جنازاته اليومية في بغداد ومدن العراق الاخرى.

ان "المستجد المحتمل" عالميا يجب ان يحرضنا جميعا على درسه والمشاركة في صيرورته عربيا. ومن دون هذا التكيف مع المتغيرات سنبقي نجتر ازماتنا وانتقالها من وطن عربي الى آخر لاننا فضلنا المصيدة التي نحن فيها على الانعتاق الواعد في المحتمل الجديد الموحّد.

المدير السابق لمكتب جامعة الدول العربية بواشنطن

عن «النهار» اللبنانية 23 يناير 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى