الحضرمي.. وطن مهاجر

> ريم عبدالغني:

>
ريم عبدالغني
ريم عبدالغني
وعدتكم في العدد السابق أن نقوم معاً برحلات قصيرة إلى عالم اليمن الساحر واليوم رحلتنا الأولى ومقصدنا حضرموت,لماذا اخترت أن أبدأ بحضرموت؟ هل لأنها إحدى الجذور الرئيسية للحضارة اليمنية؟ أم لأني لا أملك أن أكتم مشاعر المحبة لهذه المنطقة دون غيرها من سائر مناطق اليمن، وربما العالم؟ بغض النظر عن الأسباب سندخل اليمن من بابها الخلفي كما فعل الرحالة الألماني هانس هلفرتز قبل سبعين عاماً فرافقوني إلى حضرموت.

«سنحط» على مرمى حجر من صحراء الربع الخالي بين ثنايا الهضاب الصخرية الخلابة .. هنا تقع واحة وادي حضرموت الخصيب، الموطن التاريخي والحضاري العريق، ولأن ناحيتها الشمالية الشرقية مكسوة بالكثبان الرملية فقد عرفت طويلاً باسم وادي الأحقاف (جمع حقف: أي كثيب من الرمال).

وحضرموت التي عرفت الحضور البشري قبل أكثر من سبعمائة ألف عام، والتي تضم قبر نبي الله هود (الذي بعثه الله إلى قوم الأحقاف عاد) كانت مملكة مزدهرة منذ القرن العاشر قبل الميلاد، وكان لها شأن عظيم في العالم الاقتصادي بفضل شهرتها أرضاً للبخور واللبان وشهرة أبنائها في النسيج وصناعة الحلي وازدهار الزراعة وأنظمة الري فيها،«كانت القوافل التجارية تنساب على مهل من غابة البخور في حضرموت (كما كتب الباحث الأمريكي وندل فايبس) متجهة نحو الشمال على طول الجزيرة العربية ثم تعود محملة بالبضائع من مصر واليونان وروما، حتى وصف أحد ملوكها بـ(ملك اللبان)».

ويعرف الكثيرون عن حضرموت، حتى أولئك الذين لم يزوروها إن لم يكن من خلال قراءاتهم فمن خلال التقائهم بالحضارم، الذين يتوزع مئات الآلاف من المهاجرين والمغتربين منهم في مختلف أرجاء العالم.

وللحضارم قصة طويلة مع الهجرة والاغتراب فعلى مدى القرون الماضية، هاجر الكثير منهم نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية وكذلك بهدف نشر الإسلام، في عدة موجات أبرزها في القرن السابع عشر وأهمها على مدار النصف الأول من القرن التاسع عشر، وخصوصاً إلى جنوب شرق آسيا وإلى الشاطئ الغربي من الهند وكوّنوا مستعمرات تجارية في سنغافورا وإندونيسيا.

ولأنهم أتوا يحملون الدين مشفوعاً بالتسامح وأخلاقهم العالية وسمعتهم الحسنة، فقد كان طبيعياً أن يستقبلوا في كل مكان أحسن استقبال، وقد عرف الحضرمي على مر التاريخ وفي كل مكان حط فيه رحاله بإجادته للتجارة وأمانته وتفانيه في عمله، وفي الحديث الشريف:«الأمانة في الأزد وحضرموت فاستعينوا بهم».

ونادراً ما نرى على خصر الحضرمي المنظر المعتاد «للجنبية» اليمنية، فهو بطبعه يرفض العنف ويكره السلاح وإن كان قد أجاد دائماً استخدامه في الدفاع عن مقدساته، ولا يمكنك إلا أن تحترم اهتمامه بالعلم والثقافة وحرصه المعروف على اقتناء المخطوطات والكتب. ورغم أنهم أخلصوا للبلاد التي احتضنتهم في المهجر وساهموا في بنائها وتبوأوا المناصب بل وتزوجوا وأنجبوا، لكنهم حملوا وطنهم دائماً داخل قلوبهم وأصروا باستمرار على تعزيز الجسور معه، فعاد بعضهم بعد أن جمعوا الثروات ليبنوا المرافق والمدارس والطرقات (وغالباً يبني المهاجر بعد إيابه مسجدا قبل أن يبني منزلاً له)، وحتى من لم يرجعوا ضخوا المال لإعمار وطنهم الأم.

ولهذا تطورت الحركات العمرانية في حضرموت وشيدت المنازل والمساجد والقصور وكانت الطرز الجديدة نتيجة التجربة الرائعة للتفاعل الخلاق بين الأساليب والطرز المعمارية لجنوب شرق آسيا والهند وبين أنماط البناء المحلي وتقنياته التقليدية، ويمكننا استشفاف تأثيرات عمارة بلاد المهجر في ملامح أبنية حضرموت، في التصاميم والزخارف والألوان، وحتى في بعض العادات التي أتت مع المهاجرين أو أحفادهم، وكذلك في بعض الألفاظ الدخيلة على اللهجة الحضرمية الدارجة، أقرب اللهجات العربية للفصحى.

أغلى هدية يوصى المسافر بحملها من حضرموت إلى أصقاع الأرض هي حفنة من ترابها «المبارك» وطالما اعتاد بعض الحضرميين أن يضعوا كمية من التراب يطأها المسافر بقدمه داخل قطعة قماش صغيرة، ويعلقونها في سقف درج منزله قبيل مغادرته البلد، اعتقاداً منهم بأن في هذا التراب البركة التي تعيده من السفر سالماً، لذا قد تجد في مدخل بعض الدور عدداً من الصرر بقدر عدد المسافرين من أهله، وما أكثر مهاجري حضرموت، لهذا في كل مرة أغادر فيها حضرموت أنحني لألم حفنة تراب، أقسمها بعناية ضمن صرتيّ قماش صغيرتين، واحدة أعلقها على مدخل أقرب بيت حضرمي كي أعود دائماً والأخرى أخبئها في حقيبة يدي، لأحمل معي دفء حضرموت أنى رحلت.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى