> «الأيام» علي الجبولي:

أكوام قمامة توشك أن تعلو سور المستشفى
سأل القمندان أحد أصدقائه عن انطباعاته حول صنعاء التي رجع منها لتوه في بداية عشرينات القرن الماضي :
كيف صنعاء احك لي كدار القديمي
أو كمرجاع أو كما العسالي
في امشاريج أنا هنا عند شاهر
ساكنا داره القديم البالي
أم لقاكم هناك طمبح وهزاع
والدقم ثـــمَِ ثـــمَ الوالــــي
فعلق جمال السيد على إسهاب القمندان في ذكر المواقع والأعلام «ما كان ينقصه إلا أن يحرج مع بائعي الكراث والقات في سوق السبت» .
اشتهر سوق السبت على مدى تاريخه ببيع الكراث، تورد إليه في هذا اليوم كميات كبيرة من الكراث، وإن خلا من بضائع من أسبوع إلى آخر آو بين فصل وآخر فإنه لا يكاد يخلو من الكراث بل إنه يتحول في يوم السبت إلى معرض كراث. كان الكراث يأتى من مناطق الضباب والمفاليس والهجمة والخسجة والرصان في شمال الوطن ومعها شقر الواله والسواد والبياض والكاذي يوم كان في تلك المناطق غيول ترويها، ومنذ منتصف السبعينات شهدت زراعة الكراث في الصبيحة طفرة كبيرة عقب حفر الآبار في غير منطقة منها. زرعت عشرات الافدنة في المناطق القريبة من سوق السبت، كانت تلك المزارع تغذي سوق السبت يوميا بأطنان من الكراث لمنافسة الكراث المورد من خارج المنطقة وتغطية استهلاك مناطق شاسعة في الصبيحة والمناطق المجاروة لها. ولم تقف عند الاكتفاء الذاتي بل غمرت مدن عدن والحوطة وأبين، غير أن هذه الطفرة تراجعت في أواخر الثمانينات، وزاد التراجع حدة قبل نحو عام جراء شح المياه. لم يستقر سوق الكراث ومختلف أنواع الخضار والفواكه في مكان معين، حتى غدا اليوم يحتل قلب الشارع بعد أن فشلت كل المعالجات والوعود بتخصيص سوق له.
سوق السبت والسلاح
لم يعرف سوق خاص للسلاح في سوق السبت الأسبوعي، غير أن حمل وبيع الأسلحة الشخصية بمختلف أنواعها ظلت حاضرة باستمرار وإن اختفت من حين إلى آخر وفق تساوق سلطات الحكم في جنوب اليمن، ولكن بيع السلاح والرصاص سرعان ما يعاود الظهور.
في منتصف الثمانينات أوجد محل لبيع الرصاص والأسلحة الخفيفة تحت غطاء بيعها لأبناء المناطق الشمالية المجاورة ربما لغرض في نفس يعقوب، غير أن البيع لم يقف عند النطاق الجغرافي والهدف المرسوم له، ولكن تعداه ليشمل كل من أراد الشراء في مناطق الجوار والصبيحة معا، ولم يلبث أن اغلق المحل بعد فترة ليست بالطويلة وصار بيع وشراء السلاح داخل السوق والمدينة شبه سري.
وعند إعادة توحيد اليمن لم يتأخر أن غدا البيع والشراء علنا في غير موضع ومحل. يروي المتعاقبون بأن حمل السلاح ظل المظهر الطاغي والمميز لسوق السبت على مدى تاريخه، وقد عرفت المدينة سواء في أيام السوق أو الأيام الأخرى العديد من التوترات القبلية المسلحة والحوادث العرضية كثير منها أدت إلى حوادث قتل وجرح، ومؤخر بدأ يبرز ما ينذر باستفحال الظاهرة ووقوع كوارث عقب أن أطلت العصبية القبلية برأسها من جديد و معها تزايدت ظاهرة الثأر. ففي العام الماضي أدت نزاعات قبلية أو شخصية إلى وقوع عدد من الحوادث نتج عن اثنين منها مقتل شابين، أحدهما قتل في قلب المدينة في ساعة ذروة التسوق والآخر في غير يوم السوق، وفي ضوء هذين الحادثين اتخذت السلطة المحلية قرارا صائبا في نوفمبر الماضي بمنع حمل السلاح أو بيعه في المدينة نجحت في تطبيقه، وأصبح الجميع يتسوق بأمن واطمئنان، وهو ما جعل المدينة وسوقها الأسبوعي يظهران في أروع وأجمل حللهما وهما خاليان من البنادق والأسلحة المعكرة للسكينة والصفو. جاء نجاح منع حمل السلاح وبيعه في المدينة ليكشف رخاوة فزاعة العصبية القبيلة التي يتعكز عليها المتمترسون خلف التعصب القبلي، ويتهمون القبيلة زورا وبهتانا برفض التخلي عن السلاح. تجربة نزعه في مدينة طور الباحة أسقطت أكذوبة ومصطلحات ( قبيلي عنت، قبيلي ما يسبر أو من يزقره) فاتضح أن الناس جميعا يتطلعون إلى الحياة المدنية الآمنة.

الجمال تنتظر دورها في (الحمول)
رغم عراقة سوق السبت لم تنشأ فيه أو في مناطق استجلابه حرف نوعية متميزة، عدا بعض الحرف التي لا تختلف عن غيرها من الحرف التقليدية في غير منطقة من البلاد، أبرزها الحدادة بالكير، نجارة الأدوات الزراعية من الأشجار، عصر الجلجل، تقطير القطران، تشكيل المدر (الفخار)، عمل أوانٍ من الجلود لحفظ الماء، صناعة الحلوى بأنواعها، التطريز اليدوي للكوافي، حياكة المعاوز، شغل الفرش والأواني المنزلية من حصير النخل، الخرازة، تصليح سروج الجمال والحمير(الخي والوطاف) تشكيل أوان لحفظ الألبان من ثمار الدبا.
حتى لا نتمترس خلف دهاليز التلادة
كي يغدو سوق السبت معلما أثرياً من آثار الصبيحة يوثق التاريخ دون أن يعطل عجلة الحاضر وإطلالة المستقبل، نتطلع ألا يظل السوق ومتسوقوه أسرى للماضي متمترسين خلف دهاليز التقليدية والتلادة، متكئين في سوق تفترش فيه البضائع الأرض، يباع فيه السمك تحت سعير الحرارة وغبار الرياح، زبيب وتمر وعنب تباع تحت سقيفة كوخ يعرض بجواره تفاح لبناني وكراث بين قمامة شارع لا يعرف النظافة، بدلا من هذا وذاك نتشوق لرؤية مدينة ذات مراكز تجارية راقية كمدن الأمم ولو الفقيرة، وأسواق حديثة لا تعوزها النظافة والتنظيم كي يتسوق فيها أبناء الصبيحة بدلا عن سوق تنجيح السبول وكيل الوزف، سوق بيع القطر والوشنة.
فموقع السوق (عاصمة طور الباحة) باستثناء الاتصالات وخدمات المياه التي استقرت منذ سنوات تفتقر حتى اليوم إلى أبسط مقومات النهوض وأسس التنظيم والتصميم.. عشوائية في البناء وضيق وازدحام .. تفتقر للخدمات الأساسية الحقيقية، فباستثناء المولدات الخاصة لا تعرف الكهرباء سوى أربع ساعات في بعض الليالي، وليال تتوقف، والقمامة تملأ الشوارع، والازدحام مشهد مألوف لا يبرحها، باعة يحتلون قلب الشارع، يفترشون عتبات المتاجر وأبواب المؤسسات الحكومية، مئات المواشي السائبة من مختلف الأصناف اتخذت المدينة مرعى ومبيتا كأن رعاة (عزبوا) فيها فزادت قمامتها روثاً. منذ عام ونصف سُفلتت بعض الشوارع بطريقة لا صلة لها بأدنى مواصفات السفلة والتعبيد سرعان ما كشفتها العيوب بظهور الحفر والتشققات في الإسفلت ليعود الأمر إلى سابقه كأنك يا بوزيد ما سفلتّ. ورغم المبالغ الطائلة التي تُحصّل في نقطة امرجاع ومن أصحاب المحلات التجارية زورا وبهتانا باسم النظافة والتحسين، لم تعرف المدينة نظافة ولا تحسينا. وفشلت كل المعالجات غير الجادة لنقل الباعة إلى أسواق مخصصة ومنظمة فعادوا ليفترشوا قلب الشارع بثمن وإتاوات شخصية للمعنيين بالأمر على حساب تبديد الموارد العامة. أما خدمات الصرف الصحي فما زالت سرابا مستحيل المنال، كان هناك منذ ثلاث سنين مشروع لإنشاء شبكة للصرف الصحي في المدينة بيد أنه تعثر ورُحّل من عام إلى آخر ولا أخاله سيرى النور في غد منظور.

أسماك طازحة تقطع وتباع في العراء
جزيل الشكر والامتنان للزميل العزيز عبده أحمد الشتاء، مدير التربية والتعليم بطورالباحة الذي منحني الوقت الكافي والمؤازرة المعنوية والأدبية لإنجاز هذا التحقيق كنموذج من التراث المادي للصبيحة ومعلم بارز من معالمها التاريخية.
هامش
دار القديمي، امرجاع، امشاريج: مواضع في الصبيحة. العسالي: موضع قرب الحوطة.
شاهر: الشيخ شاهر سيف المنصوري اشهر مشايخ الصبيحة في تلك الحقبة قتله جنود الامامة وهدموا داره المعروف بنوبة المرجبي في بلدة المناصرة أثناء احتلالهم للصبيحة عام 1922م.
طمبح وهزاع والدقم: من أعيان الصبيحة في تلك الحقبة.