مصطفى خضر جعلني شاعراً!

> «الأيام» مختار مقطري:

>
مختار مقطري
مختار مقطري
بعض الشعراء تألفهم وتحبهم وتعرفهم دون أن تكون قد رأيتهم من قبل أو التقيتهم، لكن شعرهم الجميل يجعلهم أدنى إليك من بعض أصدقائك، وليس كل شعر جميل يفعل ذلك، وإنما الشعر الجميل واليسير التراكيب والسهل المفردات ولكنه قوي، في معانيه التي يجلوها إشراق فتومض شباباً وحيوية في نفس متناغم وجرس حلو وانسياب طيع لا تكلف فيه ولا مشقة.. تسمعه فيعجبك. وتبحث فيه عن مبعث إعجابك فلا تجد فخامة ولا ضخامة ولا (جلافة) ولكن رقة ورهافة ومشاعر صادقة.. كلام سهل لكنه عذب رقيق ونابع من القلب، مفرداته مألوفة على كل لسان لكنها تجانست في القصيدة، انتظمت، سُبكت في بوتقة شعرية فصارت فكرة جميلة ومعاني رشيقة وحلوة لا تعقيد فيها ولا إبهام أو غموض ولا ميوعة كذلك أو تسطح وخواء قد ينتقل إليها من سهولتها ودرجها في كل الألسنة التي تلوكها في أحاديث كل ساعة وكل يوم.

والشعراء الذين يكتبون مثل هذا الشعر أقرب إلى النفس وأدنى من القلب وأكثرهم فوزاً بهذا القرب وبهذا الدنو شعراء النص الغنائي العامي الموهوبون، فقاموسهم قاموسك، ثم تدهش للفن الذي استولد من قاموسك أنت كل هذا الجمال، وتؤخذ إعجاباً بموهبتهم وبراعتهم الساحرة في التعبير بكل صدق عن عواطفك أنت ومشاعرك أنت.. عن أحلامك وأمانيك وعن أفراحك وأحزانك، ففي كل نص غنائي تجد شيئاً من نفسك، وفي كل قصيدة جميلة تجد حبك الحقيقي والحب الذي كان، ذكريات عشقك، أشواقك، ليالي سهدك، تطرف حبك الأول، التماع دمعاتك في الصد، حطام الصراع بين قلبك وعقلك في الهجر. تحفظ النص .. تردده أغنية جميلة، ولا تمل من الاستماع إليها، فأنت تستمع إلى نفسك.. تصبح أنت العاشق الذي يتحدث في القصيدة. تصبح أنت صاحب القصيدة.. تصبح شاعراً.. نعم، هؤلاء الشعراء يصنعون منك شاعراً، ومن هؤلاء الشعراء الموهوبين الشاعر الغنائي مصطفى خضر.

والحق أنني عرفت الشاعر مصطفى خضر منذ نحو(34) عاماً، ولم أكن قد رأيته من قبل، بل لم أره وأنقل ملامح وجهه من حيز المجهول إلى حيز المعلوم في ذاكرتي سوى في فعالية الاحتفاء به في مقر فرع اتحاد الأدباء بعدن مساء الثلاثاء 9/1، ذهبت لأتعرف على الشاعر الذي زرع في نفسي البذرة الأولى لشغفي الكبير بالأغنية العدنية والأغنية اليمنية التجديدية وألوان الغناء اليمني المختلفة .. بأم كلثوم وعبدالحليم وفرييد الأطرش ومحمد عبدالوهاب.

والأسماء كثيرة.. بكل أغنية جميلة راقية الكلمة واللحن والأداء. لكنه حملني جهد تحمل قلقي الكبير على ما آلت إليه الأغنية اليمنية من تردٍّ وشحوب وبلادة، وغيرتي الوجلة على كل العطاء الفني الخالد لكل الفنانين اليمنيين والعرب الكبار.

نعم، مصطفى خضر هو صاحب أول أغنية أحفظها عن ظهر قلب في مرحلة مبكرة من عمري لم أنتبه فيها إلى جمال الغناء والموسيقى والطرب، كان ذلك قبل نحو (34) عاماً بعد نجاحي بتفوق في إنهاء المرحلة الابتدائية لأكون من المدعوين لحفلة (كيك) أقامها ابن خالي المرحوم حسين عثمان الأدهل للاحتفاء بكل أبناء العائلة الناجحين في الامتحانات النهائية لذلك العام الدراسي، وفي الحفلة ومن شريط كاسيت أسمعنا ابن خالتي أغنية مصطفى خضر وبلحن وصوت الموسيقار الراحل أحمد قاسم (حبك أنت يا حبيبي).

كانت لحظات رائعة حفرت في ذاكرتي إلى الأبد.. لحظات الأحساس الأول بالجمال في الشعر وفي الموسيقى وفي الغناء، شعرت حينها أن شيئاً حدث في كوامني.. شيئاً غريباً ومفاجئا ولكنه جميل ولذيذ يهزني طرباً ويملأ نفسي بالرضا، ولم يكن جمال اللحن والأداء السبب الوحيد لإعجابي بالأغنية، بل كان للكلمات والمعاني الأثر الجميل و السحري في نفسي.. أدهشني ذلك الاستدراك المتكرر في ختام كل كوبليه (بس حاجة ممكن انسى فيها كل الذكريات.. حاجة أقوى من حياتي أغلى من كل الحياة.. حبك أنت يا حبيبي) أعجبني رفض الشاعر للنسيان لا عدم قدرته عليه(مستحيل أنسى دموعي والعذاب.. مستحيل أنسى الذي شيبني في عز الشباب) ولصغر سني حينها لم أفهم ما هو الشيء الذي يشيب المرء في عز الشباب.. لم أفهم كيف يمكن للمرء أن يبكي من السعادة.. وكيف للحب أن يخلقه من جديد (مش بسيط حبك عليّ.. ذا خلقني من جديد) ومن العبث ومن الغرور أيضاً أن أستغل اليوم طول ما انقضى من عمري لأدعي أنني قد فهمت، لكن الجهل المثير والمتسائل لذيذ دائماً.

كل المدعوين أصروا على الاستماع للأغنية أكثر من مرة، ولم تنته الحفلة حتى حفظتها كلها.

لكني عدت إلى البيت وأنا لا أعرف سوى اسم أحمد قاسم، وفي اليمن وفي معظم البلاد العربية يهمل اسم الشاعر ولا يذكر سوى اسم الملحن والمؤدي، لكني عدت لأبدأ رحلة عشقي الكبير للموسيقى والغناء والشعر وكل ألوان الفن وأشكال الإبداع، وبعد سنوات عرفت أن مؤلف تلك الأغنية التي جعلتني عاشقاً وشاعراً في كل أغنية جميلة سمعتها بعد ذلك هو الشاعر الغنائي الكبير مصطفى خضر الذي وجهني بنص غنائي جميل لأعرف أحمد قاسم والزيدي والمرشدي ومحمد سعد وغيرهم ولطفي أمان وأحمد الجابري وعبدالله عبدالكريم وغيرهم.

هذا الشاعر الجميل الذي جعلني شاعراً بالاستماع لأغانيه، والذي أعرفه منذ نحو (34) عاماً ولم أره سوى في مساء الثلاثاء الماضي 9/1 ولكنه يعيش معي منذ انتهائي من المرحلة الابتدائية يترجم مشاعري .

ويعبر بصدق عن أحاسيسي بكلام عذب ومفردات سهلة ولكنها رائعة في نسيجه الشعري الزاهي بألوان من سحر الفن وألق الجمال، لأنه نجح بصدقه الفني والإنساني وموهبته الكبيرة ومقدرته على ابتكار المعاني الشاعرية الحلوة أن يرتقي بالمفردة العامية إلى مستوى الشعر الجميل .

ويجعل اللهجة الدارجة لغة شعر وفن يمس بها كل قلب فرح بالعشق وكل قلب لوّعه العشق، وكلنا هذان القلبان، دون أن يضطر إلى استنزال اللغة الفصيحة من علياء برجها.

وهذا ما أشار إليه في الفعالية وبرؤية نقدية واعية ومتذوقة الشاعر الجميل نجيب مقبل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى