إيفل العرب

> ريم عبدالغني:

>
ريم عبدالغني
ريم عبدالغني
حيثما اتجهت في تريم تجدها أمامك.. فارتفاعها الشاهق يجعلها قبلة الأنظار، تقف شامخةً معتزةً بتاريخها مدركةً لتفردها، ورغم أنها تحرس «الغنًّاء» منذ أكثر من قرن فإنها مازالت تتألق ببهاء ابنة البارحة (الغنّْاء اسم أطلق على مدينة تريم لغناها بالأشجار والخضرة).

هي منارة مسجد المحضار ... لكنني أدعوها «إيفل» العرب..

و«إيفل» كما تعلمون هو البرج المقام في تشامب دو مار في باريس، والذي أصبح رمز فرنسا الحديثة، ولكن ربما لا تعرفون أن لدينا «إيفلنا» الذي لا يقل عن نظيره الغربي عظمة وإبداعاً.

وإذا كان المهندس الكسندر جوستاف إيفل قد طوع 6400 طن من الحديد عام 1889م ليبني بواسطة جيش من العمال والأدوات برجاً بارتفاع 300 متر، فإن عوض سلمان عفيف وأخويه حميد وخميس (وهم معالمة بناء من تريم)، قد بنوا بأياديهم أعلى برج طيني في العالم وهو منارة مسجد المحضار و بارتفاع يزيد على 52م أي ما يقارب عشرين طابقا، و لم يستخدموا في بنائها الحديد ولا الاسمنت وإنما الطين المخلوط بالقش وجذوع النخيل فقط .

و قام بالتصميم الشاعر والعالم الكبير أبو بكر بن شهاب عام 1333هـ، و يقال إنه مستوحى من صورة لأحد مساجد الهند.

و المئذنة الرشيقة المربعة المسقط تتوسط بأناقة وذكاء الواجهة الرئيسية البديعة المجصصة بالنورة البيضاء، بملامحها الشرق آسيوية ومستوياتها السبعة، و قد حوت داخلها درجاً يصل قمتها مؤلف من 152 درجة ( كما وصفها الهولندي فان دير ميولن وصديقه العالم الجغرافي فون فايسمان).

ومسجد المحضار يقع في قلب مدينة تريم ..في حارة الجور على أطراف حافة الأزرة، وقد بناه - وعدداً من المساجد الأخرى في تريم - الشيخ عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف في القرن التاسع الهجري، وتمت توسعته الكبرى أوائل القرن الرابع عشر الهجري حتى باتت مساحته الكلية 1344 متراً مربعاً، أما المئذنة فقد تأخر بناؤها إذ كان قدر ارتفاع قامة (طول الإنسان) منها يترك كل مرة ليجف ويطلى بالنورة، ثم يعاود البناء فوقه وهكذا.

وتواترت قصص أخلاق الشيخ عمر المحضار النبيلة وصفاته الكريمة إلى يومنا هذا، ومازال يتبرك باسمه الصغير قبل الكبير من أبناء المنطقة، فيقال مثلاً عند دخول تريم أو عند الإقدام على عمل يراد تحقيقه «يا عمر يا محضار» عدة مرات، كما يـذكر اسمه كثـيراً في الأناشيد التي تردد أثناء الاحتفالات تبركاً به، و يقال إنه إذا حلف كاذب في مسجد المحضار عوقب.

خلق معلمو البناء التريميون من «مدرة» الطين الصغيرة لوحات رائعة، أياديهم المتماسكة رسمت بفطرة صافية ومحبة صادقة، فأبدعت تراثاً عظيماً ما زال حياً إلى يومنا هذا، ويقول شيخ المعماريين المهندس المصري حسن فتحي رحمه الله «إن البناء بالطين يشجع روح الجماعة إذ أن رجلاً واحداً لا يستطيع بمفرده بناء بيت واحد لكن عشرة رجال يستطيعون أن يبنوا عشرة بيوت»، وتقف منارة المحضار شاهداً على ديمومة التعاون والتفاهم، في حين لم يشأ الله لبرج بابل العظيم أن يكتمل فجعل بنائيه يتكلمون لغات مختلفة، وتعطلت وسائل التفاهم فيما بينهم وتوقفوا عن البناء وانتشروا في أرجاء الأرض .

و بعد ما يزيد على مئة عام من بنائها، ما زالت تحفة العرب المعمارية هذه، بدقة تنفيذها وتشكيلها وتفرد تصميمها واتزانها، شامخة تؤكد عبقرية الحضارة الحضرمية، في الوقت الذي يهبط برج الأجراس في كاتدرائية يبزا في ايطاليا بمعدل 1.3 ملم كل عام منذ إنشائه عام 1173 ( مائل اليوم بقدر 4.4 م)، و لتعلموا أن له ذات ارتفاع منارة المحضار بل ومبني بالحجر أيضاً.

و إذا كان لتريم «ايفلها» فإن لها أكثر من «فرساي»، وهي تزهو بعشرات القصور التي - وبالطين الخالص- حوت كل ما حوته قصور باريس الفخمة، استطاع بناؤوها تكييف طرق البناء المحلية التقليدية لاستيعاب فنون العمارة الإسلامية بطابع خاص فيه من عمارة الشرق الأقصى( تأثيرات المهاجرين) وكذلك تأثيرات أوروبية كلاسيكية أدخلتها عائلات تريم الثرية التي عاشت فترة من الرخاء الاقتصادي والثقافي في بداية القرن العشرين، وكان لها أثر حاسم وفعال في إذكاء النشاط العمراني الذي شهدته المنطقة حينها، كعائلة الكاف التي لعبت دوراً سياسياً واقتصادياً هاماً في حضرموت(دعمت دولة الكثيريين وأمنت العديد من الخدمات وشقت الطرقات وغير ذلك)، فانتشرت تشكيلة بديعة من المباني والقصور الطينية الفخمة في تريم، ومن أشهرها قصور عشة ودار السلام والتواهي وحمطوط وبخيتة ومنيصورة وقصر القبة .

في مكتبي.. وعلى اللوحة التي ألصق فوقها عادة ما يروقني من عبارات وصور وبطاقات بريدية..صورة كبيرة أحبها لمنارة المحضار .. التقطتها في زيارتي الأخيرة لتريم.. وكلما وقعت عليها عيناي.. صليت على النبي الكريم .. ورددت مع الحضارمة بخشوع:

صلوا على الهادي يا معشر الحضار والله ما يندم من جاور المحضار

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى