المحضار .. وإضاءات فنية حول «أيش تبي عاد»

> «الأيام» رياض باشراحيل:

> بعد ان صدر مقالنا ( في الذكرى السابعة لرحيل المحضار.. 6 أغنيات محضارية في ديوان أبوبكر سالم بلفقيه) الذي نشر في «الأيام» الغراء العدد (5008) الصادر يوم 5 فبراير 2007م ، نقل المقال من صدر «الأيام» إلى ساحات المنتديات اليمنية والعربية بالإنترنت ، وكان الموقع اليمني «سقيفة الشبامي» من أكثر المواقع تفاعلا مع الموضوع ربما لتميزه بنشر وثائق المقال إضافة إلى مقطع صوتي بصوت فناننا أبوبكر سالم وهو يتحدث إلى كاتب هذه السطور في حوار سابق. وقد تابعت ردود الأفعال في تلك المنتديات وطرح الأعضاء لبعض التساؤلات التي آثرت أن أرد على أهمها استنادا إلى قراءتي لتصريحات الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار - يرحمه الله- وآرائه التي لم يتركها مبهمة حول تلك القضايا الفنية المهمة بل أفصح عنها وهو على قيد الحياة .

فقد تساءل البعض حول قصيدة (أيش تبي عاد) التي كتب المحضار بيتين منها بينما كتب الفنان بلفقيه ثلاثة أبيات.. وقال أحدهم هل نعتبرها تجاوزا لبلفقيه ؟! .. والحقيقة فإن السائل هنا يضرب صفحا عن اعتراف فناننا نفسه بحق المحضار في المقطع الصوتي المنشور بالنت من ناحية ومن ناحية أخرى فقد حسم شاعرنا الكبير المحضار الإجابة عن هذا السؤال ولم يجعل للمجتهد في هذه القضية من سبيل وذلك في رده على صحيفة «عكاظ» حين قال : هذه الأغنية (حقي) وسجلت باسمه بالخطأ وهو معترف بذلك ... ثم سأله المحرر وهل كانت مقصودة ؟ فأجاب: لا لم تكن مقصودة لأنني أعطيته فقط بيتين واللحن كاملا وظلت معلقة واضطر أن يكتب ثلاثة أبيات وغناها ونسبت له.. (انتهى كلام المحضار).

إن دلالات تصريح المحضار واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار حيث أكد أن الفنان بلفقيه أضاف إلى قصيدته ثلاثة أبيات ولكنها (حقي) كلمات ولحنا حسب تعبير المحضار.. فالشاعر الكبير كما يتضح من تصريحه يأبى مبدأ إضافة أبيات مستوردة من الخارج إلى أعماله الغنائية ، إنه رفض مطلق من حيث المبدأ سواء أكان من بلفقيه أم من غيره، وهو على حق لأنه يدرك أن في هذا الأسلوب مؤشرات سلبية متعددة أولها: البعد عن الحقيقة والصدق في الفن ، إضافة إلى الاستعلاء على إبداعه بالإضافة إليه أو الترقيع، وثانيها: إن الأبيات المضافة قادمة من خارج أحاسيسه وبنات أفكاره فاقدة للتجانس مع أبياته وبعيدة عن الوحدة النفسية والفكرية للعمل الفني، وثالثها: إن الفنان بلفقيه من الناحية الشعرية يعد تلميذا لأستاذه المحضار فهل يجوز أن يضيف التلميذ للأستاذ أم أن الأستاذ يضيف لتلميذه ؟!

فالفنان الكبير (أبو أصيل) مطرب عظيم ولكنه ليس بشاعر عظيم ، هذه حقيقة يعرفها فناننا الكبير نفسه ويعرفها كل الناس وليس فيها انتقاص لمكانته الفنية ، فأبوبكر يكتب على ألحان معينة قصائد منظومة ، ولكن المحضار يكتب شعرا ينفذ إلى مسامات القلوب وينسرب إلى مثاوي الروح والوجدان ، شعرا يسمو بالنفس إلى مراتب عليا ويرفع الذوق وينهض بالقيم والمثل والأخلاق ويساهم في بناء شخصية الفرد في المجتمع وإزاحة الهموم عن كاهلها ، هذا الشعر لا يقدر على صناعته سوى العبقريات الشعرية والأفذاذ من المبدعين في تواريخ الشعوب والمحضار واحد منهم ، وفناننا الكبير بلفقيه من الناحية الشعرية ليس منهم وهو بمنطق الحقيقة والصدق شاعر متواضع لا يستطيع أن ينظم مثل شعر المحضار أو حتى يقترب منه.

بيد أن النظم على ألحان تراثية تكاد أن تموت فيحييها المبدع بكلمات تنهض بها وتبعث فيها الحياة أمر مستساغ ومقبول عرفا وذوقا مثلما نظم أبوبكر سالم على اللحن التراثي «تسلى ياقليبي» أو «ياناسيين الحبايب» وكذلك فعل المحضار وحداد بن حسن ومستور حمادي والمفلحي وغيرهم ،لأن البديل عن إحياء هذا العمل الغنائي هو موته .

أما إضافة أبيات على أغنيات ضربت شهرتها الآفاق لشعراء مشهورين أو حتى غير مشهورين فهذه قضية فيها نظر وفيها من العبث الفني والتعدي على إبداع الغير ما يستنكف منه المبدع الحر ويأباه الذوق السليم فكيف بنصوص شهيرة لشاعر شهير مازال على قيد الحياة .

إن حكاية هذه القصيدة أشبه بمبنى لشخص امتلك الأرض وشيد أساساته وبعض بنيانه فأتى آخر وأكمل البناء وادعى بملكيته.

إنني في هذه المساحة أناقش قضية إضافة شعراء أو مطربين أبياتاً لنصوص شهيرة من إبداع الرموز بصفة عامة من خلال المحضار وأغنية «ايش تبي عاد» أو «قال بومحضار» او غيرهما ، وأرى إن دفاع المحضار عن حقه هو دفاع عن حقوق الرواد وحقوق كل المبدعين اليمنيين في إبداعهم .

إن هذه القضية تعد بدعة في الفن ، وأسلوب فيه إفساد للقيم الفنية والأعمال الشهيرة والراقية للرواد ، وفيه ضياع لحقوق الملكية الفردية للمبدع ، وتلويث للإبداعات الكبيرة والسامية.

و هذا الباب إذا سمح تجاوزا بفتحه فإن محمد عبده مثلا سيعمل أبيات لأغنية «وينك يادرب المحبة» ويقول المطلع للمحضار والأغنية حقي ، ثم يأتي المرشدي وينظم على «دار الفلك دار» ويقول المطلع للمحضار والأغنية حقي ، ثم يأتي د.عبدالرب إدريس وينظم على «طائر بلا ريش» ويقول المطلع للمحضار والأغنية حقي ، ثم يأتي الرويشد وينظم على أغنية «باتبع قلبي » ويقول المطلع حق المحضار والأغنية حقي ، فيأتي يوم يكون فيه إبداع هذا الرمز أو غيره من الرموز كحداد بن حسن الكاف أو القمندان أو ابن شرف الدين أو لطفي جعفر أمان أو غيرهم قد ذاب على ألسنة المطربين . وربما بهذا الأسلوب نرسي تقاليد جديدة في الفن العربي ننطلق بها من وطننا اليمني فيأتي من الفنانين العرب من ينظم على الأطلال لأم كلثوم مثلا ويغنيها ويقول الأطلال حقي والمطلع لإبراهيم ناجي، وآخر يغني «رسالة من تحت الماء» لعبدالحليم حافظ ويقول الأغنية حقي والمطلع لنزار قباني وهكذا .. أليس في هذا المناخ تعد على حقوق الرواد وتلوث وفوضى ؟! أليس فيه إفساد للمثل والقيم والسمو في الفن ؟!

ولا يغرب عن بالنا تميز العلاقة التي تربط المحضار بفناننا الكبير أبوبكر سالم ذلك التميز الذي ربما حدا بصديقه الحميم فناننا بلفقيه أن يتجرأ على قصيدة صديقه ورفيق دربه من باب العلاقة المتينة التي تجمعهما فأضاف لها ما أضاف عن طيب نية وأريحية وقصد حسن .إلا أن الشاعر المحضار رغم طبيعته السمحة ومشاعر المحبة التي تجمعه بصديقه بلفقيه كان يرنو لهذا الأمر بجدية ، ويصرح للصحافة وهو شاخص إلى إبداعه ، ويعبر عن آرائه فيها بتأكيد حقه المشروع في شعره وفنه، فتصريحه كما فهمته فيه رفض للأبيات المضافة دون علمه ، وامتناع عن الاعتراف بها رغم وجودها بدليل تأكيد حقه في العمل الغنائي. إذن شاعرنا يعتبرها أبياتاً «غير شرعية» حيث لو علم بالحاجة إلى الإضافة لصاغ عشرات الأبيات المميزة بالعمق والقوة والرفعة والخالية من السطحية والضعف والركاكة. هذا كما يبدو لي هو موقف المحضار عموما من هذه القضية ، ولأبدع فالمحضار يمثل شخصية المبدع الحضرمي واليمني المعتز بنفسه وبإبداعه ، الواثق من مواهبه الفذة ، الواعي بمكانته الكبيرة وقامته الفنية العالية بين قومه ، لذا فهو يذود عن كرامته و كرامة إبداعه بهذا الموقف الشامخ لأن الصمت والتنازل عنهما إهانة للمبدع .

إن شاعرنا الكبير المحضار في اللحظة الحرجة يبرز منطق الحقائق لا منطق المجاملات ، وتظهر النخوة في أسمى صورها بالمنافحة عن حقه في إبداعه .

وهو على حق إذ إنه فنان كبير ومبدع حر لا يؤمن بغير الصدق في الفن، ولا يريد أن يزاحمه في إبداعه أو يساومه أو يقايضه أحد في يوم ما ، لأنه كان يدرك أبعاد هذا الموضوع الشائك على تراثه وتراث الرواد ومساوئه على الفن كله ، كما كان - يرحمه الله - يدرك أيضا بوعي نافذ واستقامة رؤية خطر هذه القضية على توثيق الإبداع للحاضر وللتاريخ وللأجيال القادمة .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى