أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب الدين .. شاعر اليمن الأول (1262-1341هـ)

> «الأيام» وضاح بن عبدالباري طاهر:

> العلامة أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب شاعر فقيه أصولي، ولد بحصن آل فلّوقة(1) أحد ضواحي تريم عام 1262هـ، تربى في حجر والده الآخذ عن الشوكاني، وأخيه الأكبر العلامة عمر الملقب بالمحضار، تعلم القرآن والكتابة بكتّاب المعلم الصالح باغريب. ثم تلقى فنون العلم عن العلامة محمد بن إبراهيم بلفقيه، وحسن بن حسين الحداد، وعلي بن عبدالله بن شهاب، وحامد بن عمر بافرج، ومفتي حضرموت عبدالرحمن بن محمد المشهور، والعلامة محسن بن علوي السقاف، وأحمد بن محمد المحضار والشيخ محمد بن عبدالله باسودان.

برع في فنون عديدة حتى أدهش فضلاء مشايخه، وأذن له بعضهم في اعادة دروسه والاستقلال بالتدريس وهو مراهق، وله فتاوى وتعليقات في صغره ونظم منظومته المفيدة المسماة (ذريعة الناهض إلى علم الفرائض) وعمره إذ ذاك نحو 18 سنة وكان قد نظمها بعد أن كان في حلقة شيخه فنعس في الدرس فعاتبه شيخه، فعاد في اليوم التالي ومعه أرجوزته هذه ومما قاله:

وعذر من لم يبلغ العشرينا

يقبل عند الناس أجمعينا

وله مصنفات تقع في نحو ثلاثين مؤلفاً، في الأصلين(2) والفقه والهندسة والحساب والمنطق والطبيعيات والبديع والأنساب وغيرها من العلوم.

رحل من وطنه تريم عام 1286 هـ لأداء النسكين واتصل بمفتي الشافعية بمكة العلامة المؤرخ أحمد زيني دحلان وأخذ عنه وامتدحه. ثم رحل إلى عدن واتصل بالسلاطين العبدليين وامتدحهم، ثم توجه إلى الشرق الأقصى ودخل كثيراً من مدنه، وأقام به نحو أربع سنين قضى جلها في جزيرة جاوا في بلدة سورابايا ومارس فيها التجارة

ثم عاد إلى وطنه سنة 1292هـ وكانت قد نشبت حرب بين أمير يافع سلطان الشحر وأمراء آل كثير سلاطين تريم وسيئون، واشتد البلاء والضرر واستمرت سنتين، فسعى في إخماد تلك الحرب حتى تم الصلح بيده وبجده ونفوذه. ثم ارتحل عن وطنه وطاف في بلاد كثيرة منها عدن ولحج والحجاز ومكة والمدينة ثم زار القطر المصري فالشام والقدس ثم الاستانة، ولقي من أمراء وعلماء تلك الأقطار كل إجلال، وواجه سلطان الترك بالاستانة، وقلده النيشان المجيدي وأهدى له سيفاً، ثم استقر في حيدر أباد الدكن بالهند، وتولى التدريس في مدرستها النظامية، وصحح عدداً من الكتب وطالت إقامته بها وتأهل بها ورُزق أولاداً.

وفي عام 1331هـ عاد المترجم له من الهند إلى وطنه بعد غيبة ثلاثين سنة فقوبل بحفاوة كاملة، وأطلقت المدافع وأقيمت المواكب والحفلات، ثم عاد إلى الهند لقطع علائقه عام 1334هـ فأعاقته الحرب العالمية التي كانت قد اندلعت حينذاك من العودة إلى وطنه وانتقل إلى رحمة الله في 10 جمادى الأولى عام 1341هـ الموافق 29 ديسمبر سنة 1922م ببلدة حيدر أباد دكن رحمه الله.

وقد ترك ولداً يسمى مرتضى وأربع بنات وبني ولده الكبير علي، لكنه ظل كثير الحنين إلى وطنه وأترابه، ولعله يصور حاله خير تصوير في قصيدته التي يقول فيها:

بشراكَ هذا منارُ الحي ترمقه

وهذه دُورُ من تهوى وتعشقهُ

وهذه الروضةُ الغناءُ مهدية

مع النسيم شذا الأحباب تنشُقهُ

وفيها يقول:

يا أيها الراكب الغادي إلى بلد

جرعاؤه (3) خصبةُ المرعى وأبرقهٍ(4)

ناشدتك الله والود القديم إذا

ما بان من بان ذاك السفح مورقهُ

وشاهدت عينُك الغناء (5) غادرها

مخضلّة بالحيا الوسمي (6) مغدِقُهُ

أن تستهل صريخاً بالتحية عن

باكٍ من البعد كاد الدمعُ يغرقُهُ

يثير أشجانه فوجُ الصبا سَحَراً

وساجع الوُرق بالذكرى يؤرّقُهُ

بالهند ناءٍ أخي وجدٍ يحن إلى

أوطانهِ وسهامُ البين ترشُقهُ

إلى العرانين من أقرانه وإلى

حديثهم عبراتُ الشوق تخنُقُهُ

قال عنه تلميذه مفتي حضرموت عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف في (إدام القوت):

«لقد أخذ قصب السبق ولم تنجب حضرموت مثله من الخلق.

أما في الفقه فكثير من يفوقه من السابقين بل لا يصل فيه إلى درجة سادتي علوي بن عبدالرحمن السقاف وعبدالرحمن بن محمد المشهور وشيخان بن محمد الحبشي ومحمد بن عثمان بن عبدالله بن يحيى من اللاحقين.

وأما في التفسير والحديث فلا أدري.

وأما في الأصلين وعلم المعقول وعلوم الأدب والعربية وقرض الشعر ونقده فهو نقطة بيكارها وله فيها الرتبة التي لا سبيل إلى إنكارها.

وقد رأينا أشعار إمام الاباضية والشيخ سالم بافضل وابن عقبة وعبدالمعطي وعبدالصمد، ومطالع القطب الحداد الرائعة، ومنقحات ابن مصطفى الشاعرة فضلاً عمن دونهم فلم نر أحداً يفري فريه (7) ولا يمتح بغربه (8) ولا يسعى بقدمه. والآثار شاهدة، والمؤلفات والأشعار ناطقة. وكنت معجباً بمختارات حافظ ومع ذلك فإني أفضل عليه الأستاذ».

والحق أن شاعرنا أكثر شاعرية من شوقي ومن حافظ لولا عبقرية المكان التي أظهرت شوقي وحافظ وأخملت صاحبنا، وإلا فلك أن تقارن بين قصيدة ابن شهاب التي هنأ بها السلطان عبدالحميد بنجاته من لغم وضع لاغتياله ومطلعها:

غُلّت يد العادي إلى صدره

ورُدّ كيد الخصم في نحرِهِ

والله جلت ذاته حافظ

حافظ دين الله في عصرِهِ

خليفة الحق الذي اختاره

في بَرِّه الباري وفي بحرِهِ

يدبر الكافر مكراً به

وأين مكر الله من مكرِهِ ؟!

ما لبغاث الطير في جوها

تطمع في نيل أذى نسرِهِ

أفٍّ له أف وتفِّ لمن

أغراه أو ساعد في نُكرِهِ

أهكذا يصنع من يدعي

شهامة النفس لدى فخرِهِ

كلا ولكن هذه شيمةٌ

للائثِ (9) الخُمر على شعرِهِ

لو أنهم ممن يروم العلا

لاقوه يوم الروع في مجرِهِ (10)

إثمٌ تولت كِبرهُ أمّةٌ

يعرفها العالم من أسرِهِ

من شأنها بثُّ بذور الشقا

في الأرض والنفخ على جمرِهِ

قبحاً لها مدت خياناتها

في عامر الملك وفي قفرِهِ

إن أدركت ما أدركت غِيلةً

فالليثُ لا يهجعُ عن وترِهِ

والبحر قد يجزرْ لكنه

في مدّه بحرٌ وفي جزرِهِ

وقصيدة شوقي التي يقول فيها:

هنيئاً أمير المؤمنين فإنما

نجاتك للدين الحنيف نجاةُ

هنيئاً لطه والكتاب وأمةٍ

بقاؤك إبقاءً لها وحياةُ

أخذت على الأقدار عهداً موثقاً

فلست الذي ترقى إليه أذاةُ

ومن يكُ في بُرد النبي وثوبه

تجزه إلى أعدائه الرمياتُ

نجت أمةٌ لما نجوت وبوركت

بلاد وطالت للسرير حياةُ

وصين جلال الملك وامتد عزه

ودام عليه الحسن والحسناتُ

وقال عنه المحدث عبدالحي الكتاني في (فهرس الفهارس): «هو الإمام العلامة المؤرخ المسند المحقق الأصولي الفيلسوف النظار».

وقال عنه خير الدين الزركلي في (الأعلام): «أبوبكر بن عبدالرحمن بن محمد بن شهاب الدين باعلوي الحسيني من آل السقاف، فقيه له علم بالفنون، من أهل حضرموت اتسعت شهرته في الهند وجاوة والملايو، بمحاربته البدع، وسلوكه طريق السلف الصالح، له نحو ثلاثين كتاباً في الأصول والفقه والمنطق، والطبيعة، والكيمياء والفلك والحساب، والأدب».

وقال عنه هلال ناجي في كتابه (شعراء اليمن المعاصرون): «شاعر اليمن الأول في زمانه». ووصفه بأنه: «رأس المدرسة الشعرية في اليمن كلها».

ووصفه الأستاذ عبدالقادر الصبان في كتابه (الحركة الأدبية في حضرموت)بأنه «صاحب الانقلاب الأول في الشعر».

مؤلفاته

- الترياق النافع بإيضاح مسائل جمع الجوامع (أصول فقه).

- نوافح الورد الجوري شرح عقيدة البيجوري (أصول دين).

- الورد القطيف.

- نظام المحقق في المنطق.

- فتوحات الباعث في المواريث.

- إقامة الحجة على التقي بن حجة (بلاغة).

- العقود اللؤلؤية في الأسانيد العلوية.

- الإسعاف، والتذكير، والتنوير، والشهاب، والذريعة.

- نزهة الألباب في رياض الأنساب

- رفع الخبط عن مسألة الضغط.. وهذا الكتاب ألفه جواباً على سؤال سلطان حضرموت العلامة صالح القعيطي، وكان قد سأله عما يقوله العلماء المتأخرون عن الضغط الجوي، فأجابه عنه وطفق يرد على باسكال وينتصر لأقواله بتجارب قام بها. ومن الطريف أن إحدى الشاميات المتخصصات وقفت على رسالته هذه فردت عليه مصدرة الرد بهذا البيت من الشعر:

جاء شقيق عارضاً رمحه

إن بني عمك فيهم رماح

فقال ابن شهاب رحمه الله: إن الرد لم يهمني، وإنما الاستشهاد بهذا البيت هو الذي ساءني.وقد تناول هذا الكتاب بالبحث والتعليق الأخ الاستاذ الباحث في الفيزياء محمد علي زيد في الندوة التي أقيمت في مؤسسة العفيف الثقافية بعنوان (ابن شهاب أديباً وفيزيائياً).

هوامش

1- قرية واقعة في سفح الجبل المسمى (باعشميل) في جنوب تريم بإزاء الرملة، وآل فلوقة بطن من بطون قبيلة تميم.

2 الآصلين: آصول الفقه، وأصول الدين.

3 الجرعاء: الأرض ذات الخزونة تشاكل الرمل.

4- الأبرق: مكان غليظ فيه حجارة ورمل وطين مختلطة.

5- الغناء: تريم.

6- الوسمي مطر الربيع الأول.

7- يفري فريه: يعمل عملا متقنا كعمله.

8- يمتح: يستقي. بغربه: دلوه العظيمة.

9- لاث العمامة على رأسه: لفها وعصبها. والخُمر : جمع خمار.

10- المجر: الجيش العظيم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى